اللاجئون في أوروبا بين الاندماج والإقصاء

قد يكون الكثيرون من القاطنين في سورية خصوصاً الشباب: سوريون وفلسطينيون، حلموا يوماً بأن يسافروا إلى القارة الأوروبية؛ للسياحة أو الدراسة أو الهجرة؛ لكن أن يُدفعوا بشكل جماعي وتحت النار للمغادرة كلاجئين إلى بلدان الجوار، ومن ثم عبر طرق شتى، وغالبيتهم وسط خطر الموت، إلى أوروبا، فإن ذلك لم يخطر ببالهم، أو ببال الأوروبيين يوماً قبل اندلاع العنف المجنون وإقدام النظام على قصف همجي مدمر للمدن والبلدات والقرى، والتنظيمات الإرهابية على فرض رؤيتها المتخلّفة والمتطرفة بحد السيف وعبر قمع جماعي وقطع رؤوس وأطراف وابتداع إعدامات غابت عن المجتمع البشري منذ القرون الوسطى.
لم يعد الاستقرار في سورية خياراً للمدنيين الآمنين، بعد استباحتهم من قبل النظام وحلفائه الدوليين والإقليميين والمليشيات الطائفية من جهة وقوى الإرهاب والتطرف من جهة أخرى. ولم يكن خيار اللجوء سهلاً، ففي دول الجوار لاقى ويلاقي اللاجئون شتى صنوف العنصرية والاستغلال، وفي الطريق إلى أوروبا لم تكن الأرض مفروشة إلاّ باحتمالات الموت غرقاً أو المرض والجوع براً والعزل في مخيمات على حدود بعض البلدان، هي أشبه بمعسكرات اعتقال جماعي… لكن الكثيرين وصولوا إلى المقصد الأخير، وبلغ عدد اللاجئين السوريين في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي وفق تقديرات المفوضية الأوروبية أكثر من مليون ومئة ألف حتى السنة الحالية 2017.
لكن الشقاء لم ينته بالوصول إلى أوروبا… وإن كان الموت في حرب مجنونة أو اختبار المذلّة في حالة اللجوء إلى دول الجوار، قد انتهيا عملياً، فإن مصاعب شتى انتظرتهم وتنتظرهم في مستقرهم الأوروبي.
إن السؤال الأكبر والأعقد الذي بات يُطرح هو مسألة الاندماج في مستقرهم الأخير، وهل أن المطلوب هو الانصهار التام، أو التأقلم وتقبل ثقافة البلد المضيف مع الحفاظ على الشخصية الثقافية التي تميّز اللاجئين (الديانات وبعض المفاهيم الاجتماعية)… إذ إن البلدان الأوروبية لم تعد تماماً تلك الدول التي كانت عليه ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها بثلاثة عقود.. الدولة/ الأمّة… أصبحت أكثر قرباً من نظرية جورجيو اغامبين عن بداية تحلل الدولة/ الأمّة لتتشكل دولة/ الإنسان المجرد.
تسعى هذه الورقة، المخصصة لندوتنا هذه، إلى إطلاق عملية تفكير بشأن مسألة الهجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا إلى أوروبا، ومسألة الاندماج في ظل صعود معاداة المهاجرين في المجتمعات المضيفة، وصعوبة التأقلم لدى المهاجرين/ اللاجئين، وما ينتج عن هذه الصعوبات من مشاكل قادت في تجربة الجيل الثالث من المهاجرين من شمال أفريقيا، إلى انخراط بعض الشباب في عالم الجريمة والإدمان، ثم في عالم التطرف والإرهاب.
وتعالج الورقة بشكل أساسي مسألة اللاجئين من سورية إلى أوروبا، وإمكانية الاستفادة من تجارب الاندماج والإقصاء، للخروج بتصور مبدئي لاحقاً بشأن أي اندماج مطلوب، ولماذا، وكيف.

مقدمة نظريّة

تذهب حنا أرندت، في مقالتها الشهيرة “نحن لاجئين” (We Refugees) التي نشرتها في المجلة اليهودية الصغيرة الناطقة بالإنكليزية (The Menorah Journal) سنة 1943، من خلال تجربة اللاجئين اليهود من أوروبا وفي أوروبا، إلى استحالة الاندماج بمعنى الانصهار التام وتلقف ثقافة البلد المضيف واقتلاع الثقافة الأصلانية للاجئ بإرادته وبانتهازية من أجل التعايش مع المجتمع الجديد.
تعطي أرندت مثالاً “السيد كوهين” الذي عندما كان في ألمانياً تصرف بشكل مطلق أنه ألمانياً (150%)، وتكرر الأمر نفسه عندما ذهب إلى النمسا، وكذلك الأمر في فرنسا، ليكتشف في لحظة الحقيقة أنه ليس أي من هؤلاء.
وتقترح حنا أرندت في كتابها “الامبريالية” (Imperialism)، وهو الكتاب الثاني من سلسلة كتب “أصول الشمولية” (The Origins of Totalitarianism)، “سقوط الدولة/ الأمة ونهاية حقوق الإنسان” وفق المعايير التي وضعتها الدول المنتصرة على شكل اتفاقات ومعاهدات دولية، تقيّد بشكل أو آخر هذه الحقوق، وتدعو إلى الابتعاد عن الحديث عن حقوق الإنسان كفرد، واعتماد “الإنسان المجرد” وفق ما يقرأ أنطونيو أغامبين مقصد أرندت، في مقالتها، وذلك في مقالة كتبها بعد 50 سنة من مقالة أردنت ونشرت في بالإيطالية أولا سنة 1993، ونشرت مترجمة إلى الإنكليزية بعنوان Beyond Human Rights في أكثر من منشورة بعد ذلك.
وليس بعيداً عن رأيي أرندت وأغامبين، فإن أحد فلاسفة “دراسة المستقبل” الأميركيين الجدد، ألفين توفلر، يتقاطع معهما – كل على حدة – وإن في سياق آخر ) وذلك في كتابه “حضارة الموجة الثالثة”The Third Wave)؛ مع أغامبين عبر ما يرى أنه تأثير التكنولوجيا الحديثة على البنية الاجتماعية/ الأُسرية للدول المتقدمة، بحيث يرى حتميّة اندثار الأسر الصغيرة التي تكونت ما بعد الثورة الصناعية بعدما اندثرت الأسر الكبيرة التي رافقت الثورة الصناعية، وذلك لمصلحة الأسرة الفرد، إذ إن وسائل الإنتاج المعتمِدة على التكنولوجيا الحديثة والمعلوماتية لم تعد تحتاج إلى تجمعات بشرية كبرى أو صغرى في حيّزات مكانية. وبات بإمكان الفرد إنجاز عمله من منزله وبالتالي تشكيل ما يصفه توفلر بالأسرة الفرد، ويمكن لأصحاب المصالح أن يقوموا بإنتاج السلع في الدول نفسها التي كان يتم التصدير لها عبر البحر أو الجو من البلد المنشأ… أصبحت البلدان المستهلكة بحد ذاتها بلدان منشأ للمنتجات التي كانت تستوردها سابقاً، وبات المنتج بحد ذاته منتجاً شخصياً فردياً وليس منتجاً جماعياً، إذ إنه يتلاءم مع ما يريده الفرد حيث هو. إن تلك المتغيرات في العملية الانتاجية وفي العلاقات الاجتماعية، لا بد أن تُحدث تغييرات على مفهوم الدولة التي نشأت بعد الثورة الصناعية في أوروبا.
أما تقاطعه غير المباشر مع أرندت، فهو عند رؤيته أن التطور هذا الذي بدأنا نشهده فعلياً في الدول الأكثر تقدماً، مقروناً بالتطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية، وما يفرضه من تغير في المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يُحدث صدمة، وفق توفلر، لدى الدول/ المجتمعات الأقل تقدماً والتي تستخدم التكنولوجيا المتطورة المستوردة من البلدان المتقدمة، لكنها في الوقت ذاته لم تبلور عبر مسار تاريخي متدرج المفاهيم التي قادت إلى هذا التطور، كما أن العلاقات الانتاجية والاجتماعية فيها متخلّفة عمّا هي عليه في الدول المتقدمة، الأمر الذي يُحدث صدمة اجتماعية وأخلاقية واقتصادية، قد لا تحتملها بعض الدول/ المجتمعات. فكيف إذا انتقل جزء من شعب بشكل جماعي، من دولة أقل تطوراً في مساراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية/ الانتاجية، إلى دول بلغت حداً هائلاً في التقدم على مختلف المستويات؟… “صدمة التطور” هذه كما يراها توفلر، تشبه بشكل غير مباشر مثل أرندت عن السيد كوهن، فلا المجتمع المضيف المتطور ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً قادر على فهم اللاجئين بما هم عليه، ولا اللاجئين قادرين على الاندماج بالمجتمع المضيف بسبب الاختلافات الثقافية والاجتماعية، ومفهوم العمل الذي اعتادوا عليه في بلدانهم، وبالتالي هم عالقون بين الإقصاء من قبل المجتمعات المضيفة أو الإقصاء الذاتي بسبب صعوبة الاندماج، أو إنهم يعيشون اندماجاً وهمياً “انتهازياً”، وفق أرندت، يقودهم إلى النتيجة ذاتها، وربما أكثر، عند إعادة اكتشاف حقيقتهم، مثل الانتحار، أيضاً كما تكتب أرندت في مقالتها آنفة الذكر.
إن التقاء الآراء بشأن اللاجئين ومفوم اللجوء بين أرندت وأغامبين، وتقاطع توفلر بشكل غير مباشر معهما، لا يلغي حقيقة أن الثقافة المبنية على مبدأ “الدولة/ الأمة” الغربية وإن كانت تضعف من خلال التكاثر السلبي السكاني فيها واضطرارها الى عملية “استيراد سكانية” باتت تغير من شكل المجتمعات فيها، فإنها لا تزال تقاوم الانحلال، وهذا ما يُعبَّر عنه من خلال بروز الأحزاب اليمينية المتطرفة كقوى مقررة في تلك الدول؛ بل حاكمة كما هو الحال في بعض دول أوروبا الوسطى والشرقية، وحتى في ألمانيا نفسها حيث شرق البلاد الشيوعي سابقاً يتميز بارتفاع المشاعر العنصرية فيه وحيث تمكن حزب النازيون الجدد “البديل” من دخول البرلمان لأول مرّة وكقوة ثالثة قد لا تغيّر في سياسة المستشارية لكنه بالتأكيد تُعدّ دلالة على هذا المسار، إذ إن بعض تلك الدول تتعامل مع المهاجرين من سورية، تماماً كما تعاملت الدول الأوروبية مع المهاجرين الأوروبيين خلال الحرب العامية الثانية، عبر عزلهم وترحيلهم جماعياً و/ أو تجميعهم في مخيمات داخل أسوار أو أسلاك شائكة.
يتحدث أغامبين في مقالته Beyond Human Rights، عن “انعدام مساحة مستقلة للإنسان المجرّد داخل النظام السياسي للدولة/ الأمة [….] حتى أنه في أفضل الحالات، تبقى حالة اللاجئ معتبرة كحالة مؤقتة يجب أن تقود إما إلى التجنيس أو إلى العودة إلى الوطن.” ويضيف أن “الحالة الدائمة للإنسان كما هو، غير قابلة للتصور بالنسبة لقانون الدولة/ الأمة.”

لمحة موجزة عن مسألة اللجوء إلى أوروبا وتطور القوانين فيها

برزت مسألة اللجوء والحماية بشكل حاد في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية التي تسببت بتشتيت ملايين الأوروبيين من أماكن سكنهم و/ أو بلدانهم، وقد وُضع اتفاق جنيف 1951 بناء على هذه التطورات، ثم بروتوكول نيويورك 1967، الذين يعرفان من هو اللاجئ، وقد كانا حجر الأساس للمقاربة التي تم البدء فيها لوضع نظام لجوء موحد في الاتحاد الأوروبي، وذلك اعتباراً من سنة 1999، خصوصاً بعد تجربة اللجوء الثاني الكبير الذي تسببت به حرب 1998 – 1999 في يوغوسلافيا السابقة.
وفي 5 تشرين الثاني 2004، تم تبني برنامج لاهاي الذي دفع قدماً نحو العمل على تبني نظام اللجوء الأوروبي الموحد (Common European Asylum System – CEAS)، وعلى وجه التحديد، أضاء ذلك على التحديات أمام تأسيس آليات مشتركة ووضعية قانونية موحّدة لهؤلاء الذين يطلبون اللجوء أو وضعية الحماية.
في حزيران 2008، عرضت المفوضية الأوروبية سياستها إزاء اللجوء، والتي تضمنت 3 دعامات لتعزيز العمل على تطوير نظام اللجوء الأوروبي الموحد (CEAS)، هي:
• العمل على تنسيق معايير الحماية من خلال توحيد التشريعات ذات الصلّة باللجوء.
• تنسيق عملاني وتعاون أكثر فاعلية.
• تعزيز التضامن وحس المسؤولية لدى دول الاتحاد الأوروبي، وبين دول الاتحاد والدول غير الأعضاء فيه.
تأسيساً على ذلك، قدّمت المفوضية الأوروبية في سنة 2009 اقتراحها بإنشاء المكتب الأوروبي لدعم اللجوء (European Asylum Support Office – EASO) لدعم جهود الدول الأعضاء في وضع سياسة لجوء عادلة ومستدامة، وتقديم دعم تقني وعملاني لمواجهة الظروف الخاصة. وقد أصبح هذا المكتب فاعلاً تماماً اعتباراً من حزيران 2011، وللمصادفة، فإن هذا التاريخ يعني كثيراً في المنطقة العربية، التي كانت تواجه في حينه ما عُرف سابقاً بـ “الربيع العربي”، أو الاضطرابات التي نشأت عن تصدي الأنظمة القائمة لمطالب الشعوب بالديموقراطية والإصلاح، وفي السنوات اللاحقة، سوف تشهد أوروبا موجة عاتية من تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا، وخصوصاً من سورية التي سالت فيها أنهر الدماء ودُمِّرت المدن والقرى وهُجِّر الملايين منها إلى دول الجوار بشكل أساسي، وأوروبا، وأقل باتجاه القارة الأميركية البعيدة عن موقع الحدث، حيث وضعت كندا برنامجاً نقلت بموجبه آلاف اللاجئين من سورية في رحلات جويّة منظمة.
المكتب هذا الذي تم تفعيله اعتباراً من حزيران / يونيو 2011، وعزز من قدراته ونشاطه وتأثيره، عمل بالشراكة والتنسيق مع المفوضية الأوروبية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (United Nations High Commissioner for Refugees -UNHCR).
وكانت المفوضية الأوروبية قدمت في سنة 2010 خطة عمل خاصّة بإيواء اللاجئين القُصّر الذين يصلون إلى بلدان الاتحاد الأوروبي منفردين من دون عائلاتهم.
لقد دفعت أزمة اللجوء خلال سنتي 2015 – 2016، المفوضية الأوروبية للإعلان عن مقترحات لآلية إغاثة طارئة داخل الاتحاد الأوروبي. وتم تخصيص 700 مليون يورو على مدى 3 سنوات لمواجهة الأزمة الإنسانية هذه وتقديم المساعدات الطارئة من طعام ومأوى وعناية صحيّة… الخ.
في نيسان 2016، أعلنت المفوضية الأوروبية العمل على إطلاق عملية إصلاح نظام اللجوء الأوروبي الموحد الموضوع حديثاً، بعدما واجه تحديات لم تكن متوقَعة، أوجدتها موجة الهجرة الكبيرة التي تصاعدت في 2015، خصوصاً التصرفات التي قامت بها بعض دول الاتحاد والتي عملت على إقفال حدودها، وعزل من تمكن من الدخول من طالبي اللجوء، ووضعهم في مخيمات أشبه بالمعتقلات، ووضعهم في قطارات مكتظة وإرسالهم إلى دول أخرى، وخصوصاً إلى ألمانيا، حيث لاقى هؤلاء تعاطفاً شعبياً كبيراً تمثل بجمع مواد عينية يحتاجها اللاجئون وتوزيعها عليهم عند وصولهم الى محطات القطار في مدن ألمانية.

اللاجئون إلى دول الاتحاد الأوروبي بالأرقام

وفق مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، استقبلت دول الاتحاد 431 ألف لاجئ في سنة 2013، و627 ألفاً في 2014، وارتفع هذا العدد بحدّة وبلغ مليون و300 ألف لاجئ تقريباً في سنة 2015، لينخفض إلى قرابة مليون و260 ألف لاجئ سنة 2016. ويقدر مكتب الإحصاء الأوروبي أن عدد اللاجئين الذين طلبوا اللجوء في دول الاتحاد في 2015 – 2016 بلغ تقريباً ضعفي ما تم تسجيله في دول الاتحاد الـ 15 خلال موجة اللجوء السابقة من يوغوسلافيا السابقة في سنة 1992.

طلبات لجوء السوريين سنة 2016 وفق كل دولة من دول الاتحاد

مثّل اللاجئون القادمون من سورية العدد الأكبر من بين مجموع اللاجئين في دول الاتحاد الاوروبي. وكانت ألمانيا على رأس القائمة حيث استقبلت طلبات أكثر من 266 ألف لاجئ من سورية. وهنا أرقام توزع طالبي اللجوء من سورية على بلدان الاتحاد الأوروبي، في سنة 2016، وفق مكتب الإحصاء الأوروبي:
(1) ألمانيا 266250؛ (2) اليونان 26630؛ (3) النمسا 8730؛ (4) هنغاريا 4875؛ (5) السويد 4710؛ (6) فرنسا 4670؛ (7) إسبانيا 2930؛ (8) هولندا 2865؛ (9) بلغاريا 2585؛ (10) سويسرا 2040؛ (11) الدنمارك 1255؛ (12) بلجيكا 1235؛ (13) قبرص 1165؛ (14) رومانيا 805؛ (15) فنلندا 600؛ (16) النروج 540؛ (17) كرواتيا 335؛ (18) لوكسمبورغ 330؛ (19) مالطا 285؛ (20) سلوفينيا 260؛ (21) إيرلندا 245؛ (22) لتوانيا 165؛ (23) لاتفيا 150؛ (24) جمهورية التشيك 65؛ (25) إستونيا 45؛ (26) أيسلندا 35؛ (27) سلوفاكيا 10؛ (28) إيطاليا 0؛ (29) بولندا 0؛ (30) البرتغال 0؛ (31) المملكة المتحدة (بريطانيا التي لا تزال حتى حينه تعتبر ضمن الاتحاد الأوروبي) 0؛ (32) ليخشتنشتاين 0.
ووفق توزيع الفئات العمريّة لمختلف جنسيات الذين لجأوا إلى دول الإتحاد الأوروبي المسجلين كمقدمي طلبات لجوء سنة 2016، فإن 17% كانت أعمارهم تزيد على 35 عاماً. أمّا من هم أقل من 35 عاماً فكانت نسبتهم 83%: منهم 51% تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً، و32% أقل من عمر الـ 18 عاماً.

ملاحظات على الاستجابة لأزمة اللاجئين

تفاوتت استجابة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لأزمة اللاجئين، على الرغم من كل العمل الذي قامت به مؤسساته وخصوصاً المفوضية الأوروبية، لتوحيد سياسة اللجوء؛ وربما يبرز ذلك من خلال الأرقام التي وردت في تقرير مكتب الإحصاء الأوروبي في حزيران / يونيو 2017، وتظهر الفارق الكبير بين عدد اللاجئين في دولة مثل ألمانيا، وباقي الدول، لكن ربما الانتقاد الأكثر حدّة من بين التقارير المحلية والدولية جاء من منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في شباط / فبراير 2017.
ترى “هيومن رايتس” أن استجابت حكومات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي سنة 2016 كانت “بطرق غالباً ما قوّضت القيم الأساسية وحماية الحقوق أو تجاهلتها، بدلاً من العمل معاً باستمرار للدفاع عنها، في مواجهة تحديات استراتيجية هامة، من بينها أزمة اللاجئين.” وتأخذ على دول الاتحاد التركيز على المساعدات لدول الجوار السوري، الأردن ولبنان وتركيا، وذلك بهدف التخفيف من تدفق اللاجئين إلى القارة العجوز.
ويشير تقرير “هيومن رايتس” إلى أن النقاش يدور أكثر حول تأثير اللجوء “على الأمن والهوية الثقافية وتزايد التأييد للأحزاب الشعبوية كمنصات كراهية للأجانب.”
وتنتقد المنظمة الحقوقية الدولية، بشكل خاص “إغلاق الحدود على امتداد البلقان واتفاق آذار/ مارس مع تركيا” الذي أسهم “في انحسار كبير في عدد الوافدين عن طريق البحر إلى الجزر اليونانية في بحر إيجة،” من دون أن يوقف ذلك “الهجرة في القوارب من شمال أفريقيا إلى إيطاليا” التي بقيت “على وتيرتها في السنوات السابقة، عبر البحر في الأشهر العشرة الأولى (من سنة 2016) عند ما يقرب من 328 ألفا للوصول إلى الشواطئ الأوروبية، مقارنة بـ 736646 خلال نفس الفترة من عام 2015 ، وفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.”
ويشير تقرير “هيومن رايتس” إلى أنه “فُقد في البحر 4271 شخصاً حتى منتصف تشرين الثاني، مما يجعل 2016 العام الأكثر دموية على الإطلاق.”
ويلفت التقرير إلى أن “إغلاق الحدود على طريق البلقان وتصاعد مراقبة الحدود في النمسا وفرنسا وسويسرا ترك طالبي اللجوء والمهاجرين عالقين في اليونان وإيطاليا. كان هناك صد عنيف على الحدود البلغارية – التركية وحدود مقدونيا واليونان. كانت النمسا والدنمارك والمجر والسويد وألمانيا من بين دول في الاتحاد الأوروبي التي تبنّت قوانين لجوء أكثر تقييداً.”
ويحذر التقرير من أن أزمة اللاجئين المستمرة والهجمات التي شنها متطرفون منتمون إلى تنظيم “داعش” الإرهابي في بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، عززت “كراهية الأجانب والخوف من الإسلام والمشاعر المعادية للمهاجرين، وتجسّد ذلك في هجمات على المسلمين والمهاجرين وأولئك الذين يُعتقد أنهم أجانب، بالإضافة إلى دعم الأحزاب الشعبوية المناهضة للهجرة في كثير من دول الاتحاد الأوروبي.”
كما أشار “مجلس اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح” (European Commission against Racism and Intolerance – ECRI) في تقريره السنوي في 26 أيار / مايو 2016، إلى تعزيز المشاعر السلبية اتجاه المهاجرين وكراهية الإسلام ، وشدد على ضرورة مكافحة العنف العنصري.
وأفادت “الشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية” في تقرير في أيار / مايو 2016 إلى أن المرأة المسلمة كانت الهدف الرئيسي لممارسات الكراهية في 8 دول في الاتحاد الأوروبي أجرت فيها الشبكة استطلاعاً للرأي.
وعلى الرغم من أن ألمانيا تميّزت باستقبالها العدد الأكبر من طالبي اللجوء، إلاّ أنه طرأت العديد من التغييرات على قانون وسياسة اللجوء في سنة 2016، إذ إن البرلمان الاتحادي أقر في شباط / فبراير، القيود المفروضة على حقوق جمع شمل الأسرة بالنسبة للأشخاص الذين لا يحق لهم الحصول على وضع اللاجئ الكامل، وفي تموز / يوليو مُرِّر قانون يهدف إلى دمج اللاجئين والمستفيدين من الحماية الثانوية وبعض طالبي اللجوء، ويقرن تقديم الفوائد والإقامة الدائمة بالتعاون مع متطلبات اللغة والتكامل الأخرى.
وعدّلت ألمانيا العديد من القوانين الحالية المتعلقة بمكافحة الإرهاب بعد سلسلة من الهجمات في تموز / يوليز 2016، في محاولة لزيادة التنسيق بين وكالات الاستخبارات. وألغت أعلى محكمة في ألمانيا في نيسان / أبريل أجزاء من قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2009 لتوسيع سلطة الشرطة الاتحادية في التحقيق وجمع المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات الإرهابية، وذلك بسبب عدم كفاية الضمانات لحماية الخصوصية.

صعوبات الاندماج

الكثيرون ينادون بضرورة الاندماج إلى درجة الانصهار، لكنهم يتفاجؤون باستحالة ذلك نظراً لاختلاف المفاهيم الثقافية والاجتماعية واللغوية، فيعودون إلى الانطواء مجدداً، ثم يميلون إلى التطرف، ويتم استقطابهم واستغلالهم من قبل تنظيم متطرف مثل “داعش” ضم في صفوفه أشخاصاً مسلمين مولودين في أوروبا وحائزين الجنسيات الأوروبية، أو حتى أوروبيين أصلانيين اعتنقوا الإسلام من طريق بعض حاملي الفكر المتطرف.
إن تجارب الماضي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند الحديث عن الاندماج، وخصوصاً تجربة المسلمين من شمال أفريقيا الذين جلبوا بأعداد كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية كأيد عاملة رخيصة يُستخدمون في عملية إعادة البناء، وخُصصت لهم مساكن جماعية على أطراف المدن، وتم تجنيسهم وتوالدوا حتى الجيل الثالث، الذي سعى إلى الاندماج، لكن كونه مجتمع يعقع على أطراف المدن، أو استقر في أحياء هامشية في المدن، حيث الجريمة والفوضى وعدم تواجد الشرطة و/ أو فساد أفرادها العاملين هناك، فإن بعض شبابه اتجه إلى اندماج سلبي، خصوصاً بسبب عدم وجود فرص عمل حقيقية، فالتجأ إلى الجريمة، وتعاطي المخدرات، ثم تعرّف على الإسلام من خلال دعاة متطرفين، فدخل في دوامّة العنف التي شهدناها ونشهدها في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا.
يقول الخبير الألماني في الجماعات الإرهابية غونتر ماير، مدير مركز بحوث العالم العربي في جامعة ماينز، في مقابلة نشرها موقع “دويتشه فيله” (DW) في 14/ 11/ 2015، إن تنامي الإرهاب في فرنسا أمر خطير للغاية،” مشيراً إلى أنه “قبل عام، تم التحذير من أن السجون الفرنسية قد تحولت إلى شبكات تكوين خلايا إرهابية، هذا ما يفسر تنامي خطر الجماعات الإرهابية في فرنسا. وبالتالي، فرضية وجود تهديد إرهابي كبير في فرنسا هي واقعية. فالسجون تجعل الشباب يتطرف أكثر، وإطلاق سراحهم يعني بالضرورة إطلاق إرهابيين مستعدين للقيام بعمليات إرهابية ضد مجتمعهم.”
ويحيل ماير التطرف إلى أن “سكان ضواحي باريس يعانون أوضاعاً اجتماعية صعبة. يعيش هناك أغلبية من المسلمين والمهاجرين ولهم أحوال اقتصادية مزرية. البطالة منتشرة بكثافة والشباب ليس لهم آفاق كبيرة، وهذا هو المناخ المثالي لنمو الإرهاب وتزايد الإسلاميين.” ويضيف “الشباب المسلم يعتبر نفسه مهمشاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، لذلك فإنهم يلجؤون إلى الإسلام، لأنه يشكل حسب رأيهم هويتهم الحقيقية. يتركز هؤلاء الشباب أساساً في ضواحي باريس الكثيفة بالمهاجرين. انعزالهم عن غالبية المجتمع الفرنسي حولهم إلى إسلاميين متطرفين.”
وعن الانقسام في فرنسا إزاء المسلمين، يقول “هناك عوامل عديدة ساهمت في هذا الانقسام، الأحزاب اليمينية مثلاً دوماً ما ألقت اللوم والاتهامات على المهاجرين المسلمين. تصريحات الكراهية والتعبوية لسياسيين يمينيين أدت أيضاً إلى تطرف هؤلاء الشباب. بالإضافة إلى انتقادات الحكومة الفرنسية في الماضي للإسلام غذّت بشكل جزئي تطرف الشباب. هذا ما أدى إلى تنامي شعور بالعزلة والاضطهاد لدى مسلمي فرنسا.”
وفي 19 تشرين الثاني / نوفمبر 2015، نشر موقع “شفاف الشرق الأوسط Middle East Transparent مقالة مترجمة عن “الفيغارو” الفرنسية بعنوان “كيف تحوّلت بلجيكا إلى معقل للإرهاب وتجارة المخدرات”، للكاتب بيار فيرميرين، الأستاذ المحاضر في جامعة باريس ١، يشير فيها إلى أنه “منذ سنوات، تشير أجهزة الإستخبارات الأوروبية والمغاربية بأصبع الإتهام إلى بلجيكا التي تعيش تحت وطأة الإرهاب الإسلامي.” ويضيف أنها تحتضن “بؤر تطرف وتجارة مخدرات في بروكسل، وأنفير (أنتوربين) وفي مقاطعة والونيا.”
ويسأل فيرميرين: “لماذا يعيش ٥٠٠ ألف مغربي في بلجيكا، أي ما يعادل ١ من ٢٠ من مجموع السكان، ولماذا يكثر بينهم إلى هذا الحدّ عدد المتطرّفين الخارجين عن أية سيطرة؟ إن تاريخ، وأصول، ونشاطات المغاربة في بلجيكا تفسّر أسباب نشوء معاقل سَلَفية في مولنبيك Molenbeek (حي في بروكسيل)، وفي مولان دو رويسّو Le Moulin de ruisseau.”
ويشير الكاتب الفرنسي إلى أن معظم هؤلاء ينتمون إلى مهاجرين من أهالي الريف في دول المغرب العربي “لم يكونوا يعرفون سوى الحد الأدنى من الفرنسية”، حين تم جلبهم إلى فرنسا وبلجيكا، بعد مجازر ارتكبها المستعمرون الفرنسيون والإسبان هناك، للعمل في مناجم الفحم، “وقد انغلقوا على دينهم المتقشّف والمحافظ، الذي لم يتأثر بحركة الإصلاح الإسلامي التي عمّت المغرب الخاضع لفرنسا.” كما أنهم استقروا في معازل على هامش حضارة المدن الفرنسية.
ويوضح أنه “بعد أن وجدوا أنفسهم مهملين ومهمّشين، فقد هاجر الريفيون مثلما فعل أسلافهم. فاستقروا في شمال فرنسا، ثم في والونيا، وأخيراً في منطقة الفلاندر وفي هولندا، التي كانت جميعاً تعيش ازدهاراً اقتصادياً. وبلغ عدد المغاربة، ومعظمهم من الريف، مليون ونصف المليون نسمة في بلجيكا وهولندا وشمال فرنسا في العام ٢٠١٥.”
ويلفت إلى أنه كون بلجيكا التي تحوّلت إلى محور لتجارة الحشيش، فإن ذلك سمح “بتعويض عمليات التسريح الواسعة النطاق التي طالت عمال المناجم وصناعة الحديد والصلب وعمال النسيج [….] وقد اتّجه قسم من تلك الشبيبة البلجيكية التي عانت من البطالة نحو الأصولية الدينية، في حين أن الشرطة البلجيكية لم تكن تملك أية خبرة في الموضوع، بعكس الشرطة الفرنسية التي كانت تملك خبرة أكبر، والتي سمحت لأجهزة الأمن المغربية بالعمل بين مواطنيها المغتربين.”

هل تستفيد أوروبا واللاجئون من سورية من التجربة المغاربية؟

تتشابه ظروف لجوء السوريين إلى أوروبا، مع ظروف هجرة وتهجير الريفيين المغاربة إلى فرنسا وبلجيكا، واستقدام عشرات الآلاف من العمالة الرخيصة غير المتخصصة من تلك الدول، بشكل أو آخر، لكن باختلاف الزمن والتجارب والقوانين الجديدة وتطور المفاهيم الاجتماعية والانتاجية – الاقتصادية، ونوعية اللاجئين أنفسهم، ودرجة التحصيل العلمي العالية واليد العاملة المهنية لدى اللاجئين من سورية أخيراً.
ففيما كانت النزعات القومية هي السائدة عند استقدام المغاربة، فإن النزعة القومية تبدو اليوم أكثر التصاقاً بأحزاب يمينية متطرفة، مع ميل لدى الغالبية – حتى الآن – في دول الغرب الأوروبي، حيث غالبية المهاجرين، إلى تقبل التعددية الثقافية والالتزام بحقوق الإنسان.
لكن على الرغم من ذلك، لا يجب أن تُحجب المصاعب في عملية الإدماج (من قبل الدول المضيفة) والاندماج (من قبل اللاجئين أنفسهم)، نظراً لما تحدثنا عنه من اختلافات ثقافية ومفاهيمية، ولغياب اليقين من المستقبل وقرارات الاستقرار أو العودة بعد أن تستقر الأوضاع في سورية.
الواضح حتى الآن، أن الصراع ما بين مفوم الدولة/ الأمّة ودولة ما بعد الحداثة، لا يزال يميل لمصلحة الدولة/ الأمّة، وبالتالي فإن النزعة الوطنية تغلب، وإن بغلاف من حقوق الإنسان، على المشاعر حالياً، وتتمظهر ببروز الأحزاب اليمينية الشعبوية والمتطرفة المناهضة للمهاجرين واللاجئين، هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى، عدم قدرة غالبية القادمين الجدد على استيعاب الاختلافات الاجتماعية والانتاجية مع المجتمعات المضيفة، على الرغم من قدرة هؤلاء القادمين وخصوصاً الشباب منهم، على استخدام المنتجات الإلكترونية والمعلوماتية الفائقة التطور نفسها، إذ إن القدرة تلك لا تلغي اختلاف المفاهيم، وإن كانت تسهم في التقريب بينها. فضلاً عمّا أشرت إليه من مسألة عدم اليقين إزاء المستقبل.
فيما يلي وقبل محاولة وضع خلاصّة للبحث الأولي هذا الذي يحتاج بالتأكيد إلى استكمال وإلى بحث أعمق وأكثر دقّة، أسرد بعض الشهادات التي أخذتها عبر البريد الإكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي ولقاءات مباشرة، للاجئين شابات وشبان من فرنسا وألمانيا وكندا، علّها تقدم صورة مبدئية لما هو واقع الحال وما يمكن أن يكون عليه المستقبل، مع الإشارة إلى أن هذه الشهادات التي جمعتها ستكون مقيّدة بإغفال الأسماء والاستعاضة عنها بأحرف:
الشهادة الأولى هي لـ: “ي ع” الشاب الجامعي السوري المثقف والناشط الاجتماعي الذي يقطن حالياً في باريس، ولمصلحة بحث يجريه حول التعليم العالي للاجئين السوريين يزور دولاً أوروبية أخرى وخصوصاً ألمانيا، التقيته في بيروت خلال زيارة عملية ذات صلًة ببحثه هذا، وللمصادفة، فإنه عمل أيضاً في بحث عن الاندماج في فرنسا. يقول السيد “ي ع”، إن معظم الشابات والشبان السوريون يلتفون حول بعضهم البعض أو حتى ينغلقون، أكثر مما يسعون للتعرف بعمق على المجتمعات المضيفة. وقد حدّثني عن حالة شاب سوري في باريس، كان ينشط عبر صفحات له على وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال اللقاءات المباشرة، في الدعوة إلى اندماج كلي في المجتمع المضيف، لكنه بعد فترة، وجد أنه غير مرغوب به أن يندمج، أو أنه فشل في الاندماج، فتخلى عن نشاطه هذا، وبات يدعو إلى التفاف اللاجئين السوريين حول أنفسهم وتشكيل تجمعات لهم، كي يتمكنوا من مواصلة الحياة في بلدان اللجوء. أمّا (ي ع) نفسه، فلا يجد مشكلة في الاندماج، كونه كان طالباً في هنغاريا قبل أن يستقر في فرنسا، وهو يُحضِّر لنيل شهادة الدكتوراة، ويتواصل بالتالي مع أكاديميين وباحثين فرنسيين وأوروبيين، ويساعده في ذلك إجادته لأكثر من لغة أوروبية.
الشهادة الثانية مقتبسة من تحقيق نشره موقع “أورينت نت” السوري، بعنوان “اللاجئون السوريون في فرنسا: كيف تكون الحياة في دوائر اللجوء”، (“أورينت نت” 20 / 8 / 2013)، تنقل فيه شهادة اللاجئ السوري (عامر أحمد) الذي يقول: “مدينة بحجم باريس لا يمكن عقد صلات وتواصل معها، خلال فترة قصيرة. تحتاج لكثير من الوقت الذي تذلل عبره العوائق النفسية والتقنية للتعايش وإقامة أواصر صلات معها. خلال هذا الوقت، نحتاج لفسحة من الحميمية المفتقدة في ظل مجتمع فرداني ومادي، لذلك تجدني آتي بشكل دوري لهذا المطعم حيث أجد نكهة الأطعمة السورية ممزوجة مع شذرات اللهجات المحببة على قلبي [….] هنا على كل لاجئ أن يمر عبر مرحلة انتقالية قد تفوق السنة لكي تستكمل حصولك على أرواقك الرسمية، خلال هذه السنة تجد الكثير من أوقات الفراغ ولا تجد سوى هذه الأمكنة [المقاهي والمطاعم التي يملكها سوريون] متنفساً”، إذ إن “فقدان أدوات التواصل متجسدةً باللغة تعتبر عائقاً آخر يجعل من الدوائر الخاصة مكاناً للاحتماء من صخب وضجيج لا نجد موطئ قدم لنا فيه: فلا يمكن أن تعيش في قلب هذه المدينة المنفتحة بقدر محافظتها الثقافية إذا لم تكن تتقن اللغة الفرنسية.”
الشهادة الثالثة هي لـ (ه س) وهي لاجئة فلسطينية من مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق مقيمة الآن في ألمانيا في ولاية شمال الراين، وصلت وحيدة إلى ألمانيا من دون عائلتها.. تقيّم إجراءات الإدماج الرسمية بأنها مشروع جيد ومهم تعمل الحكومة الالمانية على تفعيله ابتداء بتعليم اللغة للاجئين وانتهاء بالتدريب المهني و/ أو إيجاد فرص عمل لهم، لكنها ترى أن المشروع يحتاج إلى الكثير من البرامج الإضافية كي يحقق المبتغى.
فعلى سبيل المثال أحياناً لا يُعطى اللاجئ الوقت الكافي لتعلم اللغة كشرط ضروري للعمل أو الاتحاق ببرامج التدريب المهني، فيتوجب عليه الانتظار كثيراً للحصول على مقعد، كما أن الكثير من الموظفين الألمان في مراكز العمل لا يدعمون في كثير من الأحيان اللاجئين على مواصلة التعليم بل يلزمونهم بواحد من خيارين: إيجاد عمل أو إكمال الدراسة، الأمر الذي يشكل ضغطاً كبيراً على اللاجئ، وفي كثير من الأحيان يشعره بالإهانة، ومن ثم الرضوخ على مضض لقرارات الموظفين.
وتضيف (ه س) أنه في 90% من الحالات لا يتم الاعتراف بالخبرات والمهن السابقة وشهادات المعاهد التي لدى اللاجئين، فيفرض عليهم اختيار تدريب مهني لمدة ثلاثة أعوام وغالباً في مهن ليست من اختيارهم ولا تلتقي مع ما يريده اللاجئ، وهو يقبل بذلك فقط للتخلص من ضغط مركز العمل. وفي حال طلب اللاجئ عملاً فإنه غالباً لا يكون ضمن ما كان قد اشتغل فيه أو تعلمه في السابق. ومن سلبيات مشروع الإدماج أيضاً أنه لا يأخذ بالاعتبار رغبات اللاجئين وقدراتهم وأمنياتهم.
وتقترح (ه س) على السلطات الرسمية إيجاد مشروع إدماج أكثر قدرة على إقناع اللاجئين على الاندماج، وذلك من خلال مقاربة تأخذ بعين الاعتبار رغباتهم وقدراتهم. لكنها مع ذلك، تقيّم برنامج الإدماج في وضعه الحالي بأنه “جيد إلى حدٍّ ما.”
وبشأن كيف يتعامل المجتمع المضيف مع اللاجئين، وفق تجربتها: تقول: “منذ أن وصلت لم توجه إلي أي إهانة سوى من شخص ألماني واحد بصق على الأرض، وذلك لأنه عرف من لون شعري وعيناي أني عربية. أما بقيّة الألمان الذين قابلتهم فكانو رائعين جداً، ونظاميين، وإذا احترمتهم يقابلونك باحترم كبير، علماً أن الشعب الالماني شعب عملي كثير الاهتمام بعمله.”
وتحاول (ي س) تفسير عدم وجود حالات عنصرية كثيرة في الولاية التي فرزت إليها، بكثرة الوافدين من مختلف أرجاء العالم، لكنها تشير إلى أن “الوضع في شرق المانيا يختلف قليلاً، حيث يمكن ملاحظة تعامل عنصري مع اللاجئين.”
وبشأن تأثير الاختلاف الثقافي والاجتماعي واللغة على الاندماج، تقول: “أنا جديدة نوعاً ما، ولم أجتز السنة الأولى من وجودي في المانيا. لكن في الأشهر الأولى يكون الاندماج شبه مستحيل لوجود نوع من الصدمة الحضارية والحنين إلى الوطن وعدم التمكن من اللغة، لكن بعد ذلك، تلعب اللغة دوراً مهماً في الاندماج، بدءاً بالتسوق، وانتهاء بإقامة علاقات أو صداقات أو فتح حوارات مع المواطنين الألمان.” لكن “الاختلاف الثقافي كبير إذ إنه يوجد اختلاف كبير في تعريف مفاهيم مثل الشرف والكرامة والأخلاق. فهنا [في ألمانيا] الاخلاق تبدأ باحترام الوقت واحترام حرّية الآخر وعدم الكذب، هذا أمر جيّد وقد أفادني في مساعي إعادة صقل شخصيتي. أما الاختلاف الاجتماعي فهو كبير لعدم وجود عائلة. هنا تبنى العلاقات بصعوبة لكن إن حظيت بصديق ألماني فسيكون ودوداً جداً معك لدرجة انه سيسلمك مفتاح بيته.”
وتعيد (ه س) عدم الاندماج بسبب صعوبة اللغة وكم البيروقراطية والأوراق المطلوبة وصعوبة توفير فرصة عمل مناسبة وبُعد المسافات بين الأقارب وعدم وجود الوقت للزيارات، كما أن العامل الديني لبعض العائلات العربية المتدينة يلعب دوراً كبيراً في عدم الاندماج. بعض اللاجئين يصاب بالإحباط فور وصوله لاكتشاف أن ألمانيا ليست بلد أحلام كما تصورها في مخيلته… هي بلد عملي منظم، الوقت فيها له قيمة، والنظام أساسي ومن دون ذلك لا مجال للاندماج.”
وتختم (ه س) بما تعتقد أنه مطلوب رسمياً وشعبياً من الألمان.. “فرسمياً يجب إعطاء وقت أكبر للاجئ للدراسة والاندماج والاستيقاظ من صدماته وعدم إشعاره بأنه إنسان محتاج يتم الصرف عليه ويجب عليه أن يتلقف أول فرصة عمل، وعلى المستوى الشعبي ضرورة الاقتراب اكثر من اللاجئ أو المهاجر ومساعدته في الاندماج. والمطلوب من اللاجئ أن يحترم قوانين البلاد ولا يستهتر بها وألاّ يبقى جالساً على أطلال بلاد لن تعود، وأن ينظر إلى المانيا بعين البلد التي ستؤمن له الكثير من الكرامة إذا احترم ظروف العيش فيها.”
الشهادة الرابعة والأخيرة هي للسيدة (س س)، وهي سيّدة سورية جامعية أيضاً وناشطة وتعمل في منظمة حكومية تعنى باللاجئين في كندا، على الرغم من أنها لم تكمل عاماً بعد في إقامتها الجديدة في كندا.
ترى (س س) أن الاندماج في كندا يعتمد على قدرة اللاجئين على التأقلم، إذ إن البرامج التي تقدمها الحكومة الكندية متقدمة جداً وديناميكية ومدروسة بعناية، تبدأ بتأمين سكن لائق واعتناء بما يحتاجه اللاجئ من كساء وغذاء وعناية صحيّة، مروراً بتقنية متطورة لتعليم اللغة للأجانب بحيث يتم جمع لاجئين من بلدان مختلفة، يتحدثون بحرية عن ثقافاتهم، ويُعرفهم المدرسون على ثقافة كندا التعددية، وصولاً إلى تأمين ظروف عمل مناسبة للاجئين.
لكن، بعض الوافدين الجدد، وعلى الرغم من كل إجراءات الإدماج المدروسة وذات الأبعاد الإنسانية، لا يندمجون ويختارون الانطواء ضمن مجتمعات مغلقة، ويختارون الاكتفاء بما تقدمه الحكومة من مساعدات مالية للعاطلين من العمل؛ وهم للحفاظ على هذه الوضعية يتقصدّون عدم تعلم اللغة، و/ أو إخفاء قدراتهم اللغوية.
وتعزو (س س) ذلك إلى عاملين، استخلصتهما من عملها في منظمة حكومية تهتم باللاجئين من سورية: الأول، ويخص غالبية هذه الفئة، هو الخوف من الاندماج في مجتمع تختلف ثقافته تماماً عن ثقافتهم، ومفاهيمهم الاجتماعية لا تتلاقى مع مفاهيم المجتمع المضيف، وكذلك الخوف من عدم القدرة على النجاح في الوظيفة التي يمكن أن يشغلونها وبالتالي فقدان مصدرهم المالي الآتي من مخصصات البطالة. وفئة ثانية انتهازية واتكالية، بإمكانها العمل وتعي أنها غالباً ستنجح، لكنها تفضل الكسل على العمل.
وتشير في ختام شهادتها، إلى أنها حتى هي، التي اندمجت في وقت قياسي نسبياً، يتعبها أحياناً النمط العملي شديد التنظيم، وغياب الحميمية في العلاقات الاجتماعية، التي تتميز فيها البلدان العربية، وهي في لحظات الضغط الشديد، تجد نفسها تحن إلى تلك العلاقات التي فيها كثير من “الكسل الجميل”.

خلاصة

إن التهميش الاقتصادي والاجتماعي، لا بد أن يقود إلى أفعال جرمية، أو إلى تطرف سياسي وديني، وكلاهما يقودان إلى توترات اجتماعية، ولاحقاً إلى شبه صدام أهلي، ولا تزال في الذاكرة الصدامات التي جرت في باريس بين متظاهرين والشرطة الفرنسية وفي ضواحي بعض المدن بعد فوز السيد نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية في أيار / مايو 2007، شارك فيها بكثافة مهاجرون، خصوصاً بسبب إعلان ساركوزي عن نيته تطبيق سياسات جديدة “مناسبة للتعامل مع مشكلة الهجرة”، والصدامات التي جرت في تموز / يوليو 2016 لمدة 3 أيام متواصلة في الضاحية الشمالية لباريس، بسبب وفاة الشاب المهاجر أداما تراوري (24 عاماً) بعد توقيفه من قبل الدرك في بلدة بومون سور واز. هذا فضلاً عن الصدامات التي حصلت في باريس في سنة 2014 بين متظاهرين عرب وآخرين يهود مؤيدين لإسرائيل على خلفية الحرب على غزّة في حينه.
ويغذي كل ذلك، صعود موجهة معاداة الإسلام في الكثير من الدول الأوروبية، وبروز اليمين العنصري المتطرف ومشاركته في السلطة في بعض البلدان، وما رافق ذلك من تهجم كلامي ومعنوي، وهجمات جسدية ضد مهاجرين مسلمين وأفريقيين، خصوصاً بعد الهجمات الإرهابية التي نفذ غالبيتها الكبرى شبان من أبناء المهاجرين القدماء من شمال أفريقيا، والذين بيُنت التحقيقات التي نشرتها وسائل الإعلام، أن غالبيتهم كانوا في مراهقتهم مدمنين أو خارجين على القانون، ولا علاقة لهم بالدين.
ما لم يتم التنبّه لذلك من قبل السلطات والمنظمات المدنية الأوروبية ومن قبل المهاجرين أنفسهم، فإن الموزاييك القومي والديني والاجتماعي والثقافي الذي بات يميز أوربا حالياً، قد يكون نقمّة تؤدي إلى صدامات دموية، فيما من المفروض أن يبني هذا الموزاييك شكل نُظم الحكم ما بعد الدولة/ الأمّة، بحيث تضعف الهوية القومية لدى المجتمعات المضيفة ويخف الشعور بازدواجية الهوية لدى المهاجرين، ودائماً مثلما يفترض أغامبين.
أما المثقفون والواعون في مجتمعات المهاجرين واللاجئين، فعليهم إجراء أبحاث بشأن الشخصية الاجتماعية لهؤلاء، وعن قدرتهم كأفراد على الاندماج وفشلهم كمجموعات في ذلك.
يمكن لأي باحث أن يجد مئات بل آلاف قصص النجاح الفردي في الاندماج والقدرة على الانتاج الثقافي والأكاديمي والاقتصادي، وكيف أن بعض هؤلاء يبقى بشكل دائم في البلد الذي هاجر إليه أو التجأ إليه، وبعضهم يسعى لتوظيف ماله وثقافته وتعليمه في الدول التي قدم منها، فإما يستقر مجدداً فيها نهائياً، أو يختار التنقل بين بلده الحالي وبلده السابق.
السؤال الذي يُطرح هنا: هل يمكن تعميم النجاحات الفردية وتحويلها إلى عملية إدماج للمجموعات الأقل قدرة على الاندماج، والتي تحتفظ بهويتها الأولى التي فقدتها عملياً وترفض الثانية التي تمتلكها لكنها تنكرها واقعياً، ولا تستطيع أن تجد تسوية بين الهويتين؟
إن مسألة ازدواجية الهوية و/ أو ضبابيتها، لا تقتصر على الإنسان اللاجئ العادي، فمثقف فلسطيني مهاجر مثل إدوار سعيد عاشها، فكان في الولايات المتحدة يحن إلى فلسطينيته، بل كان يعيشها داخل بيته وأسرته، كما تقول ابنته نجلاء في كتاب سيرتها الذاتية “البحث عن فلسطين”… لكنه في فلسطين، كان يعاوده الحنين إلى أميركيته، بل كان قد غادرها بعدما تم التضييق عليه بسبب موقفه الناقد لاتفاق أوسلو، حيث مُنعت كتبه من التوزيع في الضفة وغزة، فيما كان مسموح تداولها في إسرائيل!!