أزمة الدولار في مصر وخيارات امتصاص الأزمة

يشهد سوق اصرف الجنيه المصري عدم الاستقرار في مقابل العملات الأجنبية بشكل عموماً، والدولار الأميركي خصوصاً، في ظل ارتباك اقتصادي، تزامناً مع ارتفاع جنوني في الأسعار، ربما لم تشهده البلاد بهذا المعدل من قبل.

وعلى الرغم من الطفرة التي حدثت فيما يتعلق بمعدل ارتفاع الصادرات المصرية، خلال سنة 2021، والتي أدخلت نحو 43 مليار دولار، إلّا أنّ الزيادة الهائلة في الواردات في سنة 2022، التهمت مخزون العملة الأجنبية في السوق، بالتزامن مع الأزمة العالمية التي فجرتها الحرب الروسيّة الأوكرانية، والتي تسببت في تعطيل سلاسل التوريد العالمية، والتجارة الدولية، ودفعت الاقتصاد العالمي نحو الانكماش، وارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة، الأمر الذي قد يكلف الاقتصاد العالمي نحو 2,8 تريليون دولار من الناتج الاقتصادي المفقود، بحلول نهاية 2023.

محاولات الاحتواء

لقد كشف الانفلات الجاري في سعر صرف الدولار، عن تراجع قدرة الدولة على تغطية العجز، وفشل الفائض الذي نتج عن برنامج الإصلاح الاقتصادي في معالجة الأمر، فضلاً عن تراجع وتيرة المساعدات الخارجية، وخصوصاً الخليجية منها، في ظل مطالب مؤسسات التمويل التنموي الدولية بالمزيد من الإصلاحات، وهو الأمر الذي وضع الحكومة في موقف صعب، ذلك بأن المزيد من الإصلاحات قد يعني تفجر الشارع الغاضب، السيناريو الذي قد يذهب بالوضع الاقتصادي برمته إلى المجهول.

أمام هذا الواقع لم يعد أمام الحكومة المصرية سوى اختيارات محدودة لامتصاص الأزمة واحتواء التضخم، بعد أن وصلت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.  وتنحصر الحلول المتاحة في ترشيد النفقات إلى أقصى حد ممكن، مع البحث عن بدائل لجلب العملة الصعبة، عبر رفع الإنتاج وتقليل الاستيراد، وجذب السيولة النقدية بترغيب المواطنين في تحويل مدخراتهم إلى ودائع بنكية، على الرغم من أن ذلك يؤدي بالضرورة إلى تراجع مؤشر البورصة.

ووفقاً لمشروع الموازنة للعام 2022 / 2023،  فإن العجز بين حجم الإيرادات وحجم المصروفات، ومن دون أقساط الديون، بلغ نحو 30,18 مليار دولار، أي 6,1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

بينما تمثل أقساط الديون وفوائدها نحو 90 مليار دولار، بنسبة 54 في المئة من إجمالي الإنفاق العام، وبزيادة نحو 27 مليار دولار عن العام الفائت، وبالتالي فرضت الحكومة مجموعة من الضرائب والرسوم الجديدة، لترتفع حصيلة الضرائب إلى نحو 63,16 مليار دولار، بزيادة نحو 10 مليارات دولار عن العام الفائت.

ديون أكبر من قدرة السداد

لقد عانى الاقتصاد من فجوة عميقة في ميزان المدفوعات خلال السنة المالية 2021-2022، وهو عجز مرشح بقوة للارتفاع في ظل رفع سعر الفائدة الأميركي وتزايد أعباء خدمة الدين العام، في ضوء حزمة قروض جديدة وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، على منحها لمصر، والتي تبلغ نحو 3 مليارات دولار أميركي، على أن يتم صرف دفعة فورية بقيمة 261,347,000 دولار أميركي، للمساعدة في تلبية احتياجات ميزان المدفوعات ودعم الموازنة.

سوف تسهم السيولة التي يوفرها قرض البنك الدولي في تخفيف الضغط الهائل على الموازنة، في ظل احتياطي النقد الأجنبي المتراجع، لكنه سوف يفرض أعباء جديدة، إذ أصبح حجم المبالغ المطلوب من القاهرة سدادها، للوفاء بالديون الخارجية، أكبر بكثير أكبر من قدرة الأخيرة على السداد، وخصوصاً بعد خروج حصة كبيرة من الأموال الساخنة، من سوق الاستثمار في مصر، بعد رفع سعر الفائدة الأميركي. إلا أن الصورة قد لا تكون قاتمة، فمن المتوقع حصول مصر على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار أميركي، من شركاء دوليين وإقليميين، وخصوصاً من دول مجلس التعاون الخليجي، وتدخل ضمن هذا المبلغ حصيلة بيع عدد من الأصول المملوكة للدولة.

هذه الإجراءات سوف تؤدي بالضرورة إلى السيطرة، بشكل مؤقت، على سعر صرف الدولار، وربما يتراجع جراء توفر العملة الصعبة، لكن الحلول المؤقتة تفقد مفعولها بعد حين، وسرعان ما سوف تنفجر الأزمة من جديد، مثلما حدث في أعقاب التعويم السابق للجنيه في سنة 2016، وبالتالي على الدولة اتخاذ بعض الإجراءات الصعبة، لعل من بينها تجميد العمل بالمشروعات الوطنية الكبيرة، إلى حين إيجاد موارد بديلة لها، مع تقليص وتيرة الاستيراد قدر الإمكان، وتنشيط البديل المحلي، عبر جملة من التسهيلات لأصحاب المشروعات الصغيرة، مع مراقبة الجودة، لمنح المنتج المحلي قدرة تنافسية.

ويبدو أنّ خيار التعاونيات لا بديل عنه، في ظل أزمة قد تمتد إلى سنوات، وعلى المحليات تنظيم المجموعات التعاونية في القرى والأحياء، لتوفير السلع الاستراتيجية بأسعار مخفضة، والقضاء على الاحتكارات وهيمنة رؤوس الأموال، وقد تمتد حركة التعاونيات لتشكل مشروعاً شعبياً للإكتفاء الذاتي، يمكن من خلاله تحقيق فائض يسهم في عملية التنمية، وجلب العملة الصعبة.

لقد عطلت الحرب الروسية الأوكرانية من حركة السياحة إلى مصر، لتفقد القاهرة مصدراً هاماً من مصادر العملة الصعبة، حيث تهيمن السياحة الروسية/ الأوكرانية على نحو الثلث، من مجموع السياح القادمين إلى مصر، وبالتالي فإنّ البديل يكمن في جذب السياحة العربية، وتنشيط السياحة الداخلية، من خلال تطوير أنماط الدعاية والإعلان، وتقديم العروض السياحية الجاذبة، وغير ذلك من المهرجانات الفنية والمناسبات.

يفرض الواقع العالمي والإقليمي جملة من التحديات الاقتصادية غير المسبوقة، والتي تتطلب وعياً مغايراً لما هو عليه الآن، ذلك أنّ حلقة الاستدانة المفرغة، والاعتماد على أنماط اقتصادية ريعية، لن يؤدي بالضرورة إلى أيّ نتائج جديدة، وبالتالي تظل الشراكات الإقليمية عاملاً مهماً، وكذا فتح أسواق جديدة في المجال الحيوي الإفريقي، أمراً لا غنى عنه، مع السعي تجاه ربط الودائع البنكية بأسهم استثمارية إنتاجية، بدلاً من المضاربة بالأموال في الداخل والخارج، وكل هذا يفترض وجود إرادة سياسية لتجاوز الأزمة وتحقيق الاستقرار.