الانتخابات الرئاسية وأزمة اليسار الجزائري

تبدو التركيبة الاجتماعية واستطراداً السياسية والحزبية التي ستخوض الانتخابات المبكرة في الجزائر التي أعلن مكتب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عنها في 7 أيلول/ سبتمبر المقبل، مختلفة، لكن ليس من المتوقع أن يكون التغيير دراماتيكياً. فمعاودة قوى الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المشاركة في الاستحقاق الانتخابي لم يكن الأمر مباغتاً، على الرغم من امتناعها عن خوض الانتخابات في فترات سابقة، إذ إن مشاركتها تبدو إسنادية للقوى الداعمة للرئيس تبون، ولإحداث خلخلة في الكتل التصويتية للمعارضين وكسبها بالدرجة التي ترمم جبهة الأخير وتقويها.

ومع فتح باب الترشح، بدا المناخ السياسي مأزوماً ويشهد معوقات عديدة، وقد طالب بعض المرشحين تمديد الآجال لجمع التوقيعات، نظراً “لمشاكل وعراقيل في الميدان”. واللافت أن الأزمة في الجزائر ليست في تحركات الأحزاب السياسية وتحالفاتها مع السلطة أو المعارضة على اختلافاتها وتبايناتها، إنّما في الكتلة الشبابية التي تبدو ممتعضة من السياسات الإجرائية المؤقتة، والكرنفالية ربما، لتجديد البيعة للرئيس، ومنحه شرعية يستكمل بها السياسات ذاتها، وبواسطة الحوامل المجتمعية التي لا تتغير معها أي مضامين في الحكم أو الممارسة، نظرياً وعملياً.

ضعف في بنية السياسة

عزوف الشباب المحتمل بشكل كبير، هو نقطة الضعف التي تبدو مرتهنة بالتغيير الجذري، لهز حالة الركود وتبديد الشعور بالإحباط والتململ. وعليه، تسعى عدة جهات وقوى سياسية، في المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، لتحفيز القطاعات الشبابية للانخراط في المشاركة في الانتخابات الرئاسية، ومنها المجلس الأعلى للشباب (هيئة رئاسية) الذي قال في بيان إن هذه الانتخابات “تشكل فرصة حقيقية لتعزيز التواصل بين الشباب والهيئات الرسمية، كما تأتي تجسيداً للتناغم والتعاون المطلوبين في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية، وتعزيزاً للدور الذي يلعبه المجلس في نشر الوعي السياسي لدى الشباب الجزائري.”

وقد حذرت منظمة العفو الدولية، من أن الانتخابات المبكرة تجري وسط مناخ من “قمع المعارضة السلمية”.

الرئيس تبون، الذي سيبلغ من العمر 79 عامًا في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، انتُخب في نهاية 2019، بعد احتجاجات مؤيدة للديمقراطية اندلعت في شباط/ فبراير من العام نفسه، أجبرت الرئيس الطويل الأمد عبد العزيز بوتفليقة على التنحي. هذا الرئيس الحالي، الذي كان من المقرر أن تنتهي ولايته التي مدتها خمس سنوات في كانون الأول/ ديسمبر، فاز بنسبة 58% من الأصوات في 2019، وكان يشغل منصب رئيس الوزراء سابقًا في عهد بوتفليقة، الذي توفي في أيلول/ سبتمبر 2021.

بعد تنحي بوتفليقة، استمرت المظاهرات التي قادتها حركة الاحتجاج “الحراك”، من أجل الدفع نحو إصلاحات عميقة في الجزائر، الغنية بالمصادر الطبيعية ولا سيما النفط والغاز. ومع ذلك، ضعفت الحركة عندما ضربت جائحة كورونا العالم بعنف.

واستغلت حكومة تبون الظروف، وقامت بقمع المعارضة السلمية، حيث  حظرت لاحقاً التظاهرات التي نظمها الحراك، وزادت من الإجراءات القانونية ضد المعارضين، والنشطاء، والصحفيين والأكاديميين.

قمع الحريات أزمة مستمرة

تحتل الجزائر المرتبة 136 من بين 180 دولة وإقليم، في مؤشر حرية الصحافة العالمي الذي تصدره مراسلون بلا حدود التي قالت في شباط/ فبراير الفائت إنّه بعد خمس سنوات من اندلاع الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، لا تزال السلطات الجزائرية تقمع حق حرية التعبير والتجمع السلمي. وفي تقرير يستند إلى شهادات المعتقلين وعائلاتهم ومحاميهم، قالت العفو الدولية إن السلطات الجزائرية “صعدت من قمع المعارضة السلمية”، منذ انتهاء الحراك في أوائل 2020، بسبب جائحة كورونا وحظر الاحتجاجات.

وقالت هبة مرايف، مديرة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية: “إنها مأساة، بعد خمس سنوات من خروج الجزائريين الشجعان إلى الشوارع بأعداد كبيرة للمطالبة بالتغيير السياسي والإصلاحات، واصلت السلطات حملة القمع المرعبة”. وتابعت: “مئات المدنيين تمّ اعتقالهم واحتجازهم تعسفياً، وعشرات المتظاهرين السلميين والصحفيين والنشطاء لا يزالون يقبعون خلف القضبان”، داعية إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المعتقلين.

مأزق اليسار الجزائري المزمن

تسعى الكتلة المؤيدة للرئيس تبون، ومنها حزب “حركة البناء الوطني”، وحزبا “جبهة المستقبل” و”جبهة التحرير الوطني” إلى حشد الشباب خلف الرئيس. وبين هذه الإدارة السياسية وإرادة المواطن، تغييب السياسات التي تمكن الشباب من الشعور بالرغبة في تشكيل واقعه المجتمعي، والانخراط في طليعة لها مهمتها في بناء واقعها، وهو أمر غائب نتيجة سوابق عديدة وميراث استبدادي في ظل نمط شمولي، استبعد قسراً وهمش الفئات التي يتعين احتواءها، والمؤهلة للمشاركة في الحكم الذي يتجاوز الفئوية أو المصالحية، وبما يؤدي لاسترداد الثقة بين الأطراف المختلفة وبعضها، وبين المجتمع والسلطة.

وهنا، يبدو السؤال مركزياً عن دور اليسار الجزائري في هذا الوضع المأزوم، وطروحاته النظرية والعملية لبناء واقع جديد على تخوم الفشل والإخفاق. فاليسار عادة ما يكون بمقدوره تشكيل رؤى تجمع العمال الشباب والمرأة، وكافة الفئات الضعيفة المهمشة؛ نظرة لبنيته الفكرية التقدمية، القائمة العدالة الاجتماعية.

واليسار الجزائري ربما طاوله الكثير من أعراض الخفوت، بالتماهي مع مآل اليسار في المنطقة والعالم، وذلك بخلاف تاريخه الذي يسجل حضوراً ملفتاً في نهاية ثلاثينات القرن الماضي على يد الشيوعي الفرنسي ميشيل توريز الذي كانت لديه رؤى نخبوية، انحرف عنها عمر أوزقان الذي ارتبط بثورة التحرير، وعمد إلى ترميم الهوية الوطنية، تحت وطأة الاستعمار، وبحث عن الاستقلال والتحرير.

ثم جاء الزعيم التاريخي في ستينات القرن الماضي حسين آيت أحمد، ودشن “جبهة القوى الاشتراكية”. وسادت لدى أحزاب اليسار، منها حزب الطليعة الاشتراكية ومؤسسه الهاشمي شريف، والذي يعد امتداداً للحزب الشيوعي الذي أسسه الفرنسي توريز، قبولاً بالتوجهات الاشتراكية، للرئيس الراحل هواري بمدين وقررت الاصطفاف السياسي معه.

وعلى الرغم من كل هذا الزخم والأسهم التي تصاعدت في سنوات المد الاشتراكي، انحسر اليسار الجزائري، وتعرض للتهميش والاعتقالات لمدد متفاوتة، كما حدث لرئيس حزب العمال، وهو حزب تروتسكي، لويزة حنون، وبلغت مدة اعتقالها نحو 15 عاماً.

وتبدو أزمة اليسار الجزائري، في انعدام قدرته على أن يُكَوّن حزباً طليعياً، بمقدوره الانتقال سياسياً وثقافياً ومجتمعياً إلى نقطة ثورية راديكالية، تحمل التغيير المطلوب، إذ جرى الانكفاء على الأطر التقليدية، بداية من نمط الحزب الواحد، وغياب قدرته على تشكيل ذاته داخل المجتمع ضمن شبكات مؤسسية لها قوتها الرمزية. وقد ترتب على هذا الفقر النظري في سياسات اليسار الجزائري، إلى تهدم إمكانات التغيير، في حين بدا الحزب شيئاً شبحياً جامداً، وليس أدل على ذلك من استمرار قبضة زعيمة حزب العمال لويزا حنون، لثلاثة عقود من دون تغيير على أي مستوى.

ومع عدم قدرة اليسار على إدارة وتحقيق التعددية، كان مستقبله السياسي بالجزائر يفتقر إلى أي حظوظ، ممّا أدّى إلى حدوث فراغات، كان الإسلام السياسي يواصل ملء جيوبها، لتصبح أرصدة مجانية له.

ويوضح الباحث نبيل فازيو، في تصريحات خصّ بها موقع “التقرير العربي”، أن اليسار الجزائري لازال مأخوذاً بنموذج الحزب الواحد، وعقيدة التروتسكية. كما أن رمزية الزعيم أيت احمد، شكلت عائقاً أمام تطور اليسار، وأغلقت أفق البحث عن نماذج قيادية بديلة.

وربما هناك مشكل آخر، يتعلق بارتباط اليسار بمراحل الأزمة والانتقالات السياسية، أكثر من ارتباطه بالتأطير العادي للحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمع، وهذا ما جعل البعض يشكك في قاعدته المجتمعية. لكن هذه الملاحظة تصدق على تجارب اليسار في كثير من الدول العربية أيضاً.

إن اقتران اليسار الجزائري بفكرة الحزب الواحد جعلته يعيش أزمة في ظل فكرة التعددية الحزبية، وهذا ما يفسر ضعف حضوره في الاستحقاقات الانتخابية (2019 خير مثال)، وفق فازيو. هذا فضلاً عن انغلاق المجال السياسي بصفة عامة، وخير مثال على ذلك اعتقال لويزة حنون لفترة طويلة.

وربما يتحرك هذا الراهن بفعل الشباب، حيث إنّ الشباب الجزائري اليوم، بعد تجربة الحراك، أظهر وعياً سياسياً، يحتم فتح المجال السياسي أكثر أمام تجارب جديدة. لكنّ اليسار بحسب فازيو، مطالب بإصلاح نفسه، والوعي بضرورة الانخراط في دينامية الفعل السياسي التعددي، الذي تفرضه متغيرات الساحة الوطنية والدولية. وهذه ملاحظة تهم تجارب اليسار في كثير من الدول العربية، وليس الجزائر فقط.