الاقتصاد المصري يقاوم السقوط بانتظار معجزة

أفاد آخر تقارير وكالة بلومبرغ العالمية، بأن نسبة التضخم في مصر ارتفعت إلى مستويات قياسية جديدة، وسط توقعات بتخفيض آخر قريب في قيمة الجنيه، وبالتالي زيادة الأسعار مجدداً.

وباتت مصر بمثابة مثل يشير إليه الخبراء، فقد استخدم خبراء الاقتصاد في البنك الدولي مصر وبوروندي، اللتين خفضتا قيمة عملتيهما بما يزيد على 40%، كأمثلة للدول التي اضطرت إلى تعاطي أدوية قاسية، في إطار برامج صندوق النقد الدولي. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى يمكن الاستمرار في برامج الإصلاح الاقتصادي؟ وما هي الحلول البديلة في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار وتراجع معدلات النمو؟

كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حذر في حزيران/ يونيو الماضي، من تأثير تخفيض قيمة العملة على الأسعار، قائلاً إن الدولة التي يزيد عدد سكانها عن 100 مليون نسمة، لن تكون قادرة على تحمل المزيد من تراجع قيمة عملتها المحلية.

ارتفاع معدلات الدين

بحلول السنة المالية في حزيران/ يونيو الفائت، وصل الدين إلى نحو 93% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس ارتفع أكثر من مرة خلال السنوات القليلة الماضية، وتحاول الحكومة خفض معدل الدين إلى 75% بحلول سنة 2026. وأدى عبء الديون الثقيل، وارتفاع أسعار الفائدة، وضعف العملة المحلية، إلى زيادة تكلفة خدمة الديون، والتي ابتلعت مدفوعات الفائدة على الديون أكثر من 45%، من إجمالي الإيرادات في السنة المالية الفائتة.

كما ساهمت مدفوعات الأصل والفوائد الكبيرة على الديون الخارجية، في خلق فجوة كبيرة في التمويل الخارجي، إذ بات يتعين على مصر أن تسدد لصندوق النقد الدولي وحده، نحو 11,4 مليار دولار على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة.

سباق الأسعار في ظل التضخم

بحسب الأرقام الرسمية، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التابع للدولة، تسارع نمو الأسعار في المناطق الحضرية إلى 37,4% في آب/ أغسطس من 36,5% في تموز/ يوليو الفائت، وعلى أساس شهري، بلغ التضخم 1,6%، مقارنة بـ 1,9% في تمّوز/ يوليو.

وكانت الزيادة بنسبة 71,4% في تكلفة المواد الغذائية والمشروبات، وهي أكبر مكون منفرد في سلة التضخم، في مفردات ارتفاع الأسعار الشهر الماضي.

وبحسب بلومبرغ، فإن معدل التضخم تجاوز 30% خلال معظم هذا العام، وهو ما يشكل تحدياً لصانعي السياسات الاقتصادية في مصر، بالتزامن مع ضغوط هائلة، للسماح بمزيد من المرونة في سعر الصرف، من أجل تمرير الشريحة التالية من قرض صندوق النقد الدولي، بقيمة ثلاثة مليارات دولار.

وجدير بالذكر أنّ صندوق النقد الدولي، أرجأ المراجعة الأولى لبرنامج المساعدات، الذي كان من المتوقع أن يكتمل في آذار/ مارس الماضي، انتظاراً لقيام السلطات المصرية، بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.

وتحاول الحكومة المصرية العمل على بناء احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، لإدارة انخفاض محتمل آخر في قيمة العملة، ومنع انفجار السوق الموازية، في حال تم إقرار التعويم المرتقب للجنيه.

التزامات مالية ثقيلة

تواجه الحكومة المصرية التزامات مالية ثقيلة، في الأشهر المتبقية من العام الجاري، إذ يتعين على القاهرة سداد 240 مليون دولار لصندوق النقد الدولي، خلال أيلول/ سبتمبر الجاري، لسداد شريحة من اتفاقية الاستعداد الائتماني، التي أبرمتها مصر في سنة 2020 بقيمة خمسة مليارات دولار. وكذلك يتعين عليها سداد نحو 1,45 مليار دولار، خلال شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر) المقبلين، كدفعات مستحقة كفوائد على حقوق السحب المقترضة، وكذلك تواجه القاهرة أعباء سداد شريحة من برنامج التمويل الطارئ، وأيضاً ثلاث شرائح من مستحقات اتفاق التسهيل الممدد الذي أبرمته مصر في سنة 2016. كما يتعين على مصر سداد نحو 6,93 مليار دولار، خلال الربع الأخير من العام الجاري، كديون خارجية، الأمر الذي يلتهم قدراً كبيراً من الاحتياطي الذي تعمل الحكومة على توفيره لتغطية تداعيات التعويم المرتقب للجنيه.

وأدت ثلاثة تخفيضات لقيمة العملة منذ أوائل 2022، إلى رفع تكلفة السلع المستوردة، بشكل لم يسبق له مثيل، بالإضافة إلى عدة أضرار لحقت بالقطاعات المختلفة، بسبب العجز عن توفير العملة الصعبة اللازمة لاستيراد الخامات والمشتقات، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع والمنتجات المختلفة بشكل جنوني، مع تزايد الفجوة في سعر الصرف، بين السوق الرسمية ونظيرتها الموازية، في بلد يعاني من نقص حاد في النقد الأجنبي.

من جهة أخرى، فإن نقص الدولار دفع البنك المركزي المصري إلى رفع أسعار الفائدة، ما أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري،

وضع هش في انتظار معجزة

يقول ديفيد باتر، الخبير الاقتصادي في مجموعة تشاتام هاوس البحثية البريطانية، في تصريحات لإذاعة صوت أميركا، أن الاقتصاد المصري تأثر سلباً بزيادة كبيرة في الديون الخارجية والداخلية، والتي تفاقمت بسبب سلسلة من الأزمات، بما في ذلك تداعيات فيروس كوفيد 19، والصراع بين روسيا وأوكرانيا، وأزمة اللاجئين، كما أدت الزيادات في أسعار الفائدة الأميركية إلى تفاقم أزمة تدفق رأس المال في البلاد.

وفي تشخيصه للأزمة، يقول الخبير الاقتصادي، إن القاهرة تعاني من عجز مالي هيكلي، وتراكم كبير للديون الخارجية، المرتبطة بالدين العام الضخم، لذلك هناك الكثير من الأعباء الثقيلة التي يتحملها الاقتصاد. ولفت إلى أن تجاوز هذا الوضع يتطلب تحقيق نمو مرتفع نسبياً، بشكل مستدام، وتحسين ميزان المدفوعات. مضيفاً: “بمجرد سقوط عجلة أو عجلتين من هذه العربة غير المستقرة إلى حد ما، فإنهم يواجهون مشكلة كبيرة.”

في بحثها عن معجزة، طرقت الحكومة المصرية كل الأبواب الممكنة، ونجحت إلى حد كبير، لنحو ستة أشهر، في تثبيت سعر صرف الدولار، وأسهم في ذلك إضافة 13 مليار دولار من الودائع من دول الخليج إلى البنك المركزي المصري، بعد أن سحب المستثمرون الأجانب 14 مليار دولار من البلد في العام الماضي.

مصر تجاوزت خلافاتها السياسية مع قطر، وسافر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى الدوحة، حيث ناقش فرص الاستثمار القطرية في السوق المصرية. كما تحاول مصر جذب الاستثمارات التركية، في أعقاب تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة، بالتزامن مع طرح أجزاء كبيرة من القطاع الاقتصادي العام للخصخصة، على أمل أن يدفع ذلك دول الخليج إلى شراء الشركات المصرية المدرجة، وهو ما سيوفر الكثير من العملات الأجنبية.

الحلول المتاحة وأفق المستقبل

مع استمرار الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، لابد من العمل بكل السبل على تعزيز المحفزات، من أجل تهيأة الظروف الاقتصادية لنمو القطاع الخاص، مع عدم الإفراط في انتهاج سياسات التقشف الصارمة، لأنّ هذه الإجراءات لها أيضاً تأثير سلبي على النمو الاقتصادي والسيولة المالية. وكذلك على الحكومة أن تدرك أن ارتفاع أسعار الوقود والمرافق، إلى جانب تخفيض الدعم على السلع والخدمات الرئيسية، يؤدي في النهاية إلى زيادة التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين.

ولمعالجة هذه المشكلات، هناك العديد من الحلول من أجل زيادة الإيرادات، وذلك من خلال تحسين جهود تحصيل الضرائب، وتشجيع الاستثمار الخاص والأجنبي بإدخال سياسات جديدة تسهل الدخول إلى السوق المصرية، وتقلل من تداعيات تقلبات العملة. ويجب كذلك تسويق الحوافز الضريبية للمستثمرين بشكل أكثر فعالية، علاوة على التركيز على القطاعات الحيوية مثل: السياحة، والزراعة، والصناعات الخفيفة، والتي يمكن أن تساعد على تحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز قطاع الصادرات غير النفطية.

فضلاً عن هذه الإجراءات، وبالتوازي مع برامج الخصحصة، يجب على الحكومة أيضاً العمل على تحسين الخدمات الاجتماعية، والصحية، والتعليمية للمواطنين، واتباع سياسات تعالج الفساد، وتعزز الشفافية، وتضمن المساءلة. ولا بد أيضاً من بذل جهود متضافرة للحد من البيروقراطية، التي تؤدي في النهاية إلى خنق نمو الأعمال التجارية وتثبيط الاستثمار.

الأهم من ذلك كله، ربما يكون في إدراك أهمية عدم الإذعان بشكل كلي لإملاءات صندوق النقد الدولي، ذلك بأن تحقيق النمو الاقتصادي، يتطلب أن يكون القطاع الخاص أكثر ديناميكية. وبالتالي، فإن أي أجندة إصلاحية تهدف إلى زيادة النمو الاقتصادي، يلزمها تزويد القطاع الخاص المحلي بالحوافز والقدرة على الاستثمار والمنافسة، وكذلك التماهي مع قدرات السوق من حيث القدرة الشرائية للمواطنين.

وبحسب الحكومة المصرية، فإن الحل يمكن في زيادة معدلات الاستثمار، إلى ما يتراوح بين 25% إلى 30% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وتتوقع الحكومة أن تؤدي هذه الزيادة بعد ذلك إلى تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة تتراوح من 7% إلى 9% سنوياً على المدى المتوسط، بينما يتوقع تقرير موظفي صندوق النقد الدولي، الذي يحدد إطار السياسات المتفق عليه، ارتفاعاً أكثر واقعية في معدلات الاستثمار، من 12% من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2022 إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي بعد خمس سنوات، وبالتالي تحقيق معدل نمو في حدود 6% تقريباً.

حكومة أزمة

لعل مصر الآن في حاجة ماسة إلى حكومة أزمة، تضع نصب أعينها مهمة إنقاذ عاجلة، تقوم على الفور بالعمل على تقديم الحوافز لتعبئة الاستثمار المحلي، والاستثمار الأجنبي المباشرمن خلال حزمة تحفيز استثنائية، مع التركيز على حماية الفئات الضعيفة من الآثار السلبية للأزمة.

في سنة 2016، توقع صندوق النقد الدولي معدل نمو قدره 5%، بالتزامن مع برنامج قروضه لمصر بقيمة 12 مليار دولار. وهو معدل أثبتت الأيام المبالغة فيه، مقارنة بمستوى الاستثمار آنذاك، والذي كان يبلغ 14% من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى الرغم من أن النمو الفعلي خلال الفترة التي قام البرنامج بتغطيتها وقف عند 4%، وهو رقم جيد، إلا أن صندوق النقد الدولي كشف في تقييمه الخاص للبرنامج، أن هذا الأداء الاقتصادي الجيد لم يكن بسبب الإصلاحات الاقتصادية ومعدلات النمو المستقل، بل جاء بسبب اكتشاف الغاز الطبيعي بكثافة في سنة 2019، ما عزز معدل النمو لبضع سنوات.

ربما تحتاج الحكومة المصرية إلى مفاجآت أخرى سارة، كما حدث في سنة 2019، لكن ارتقاب المعجزة لا يحل الإشكال، وبالتالي فإن السيناريو الأكثر واقعية، بحسب دراسة لمعهد كارنيغي، هو أن ترتفع معدلات الاستثمار إلى المستوى الذي يتوقعه صندوق النقد الدولي، لكن معدلات النمو تظل أقل عند حوالي 3-4%. وهو رقم أقل بكثير من توقعات الحكومة المصرية

وبحسب كارنيغي أيضاً، ينبغي إعادة هيكلة الديون الخارجية التي تبلغ نحو 155 مليار دولار، قبل تفعيل خطة الإنقاذ التي يقدمها صندوق النقد الدولي، وهو تحد صعب وطويل الأمد، من شأنه أن يزعزع استقرار سوق السندات الدولية. وبافتراض معدل نمو مرتفع، فقد سهَّل صندوق النقد الدولي على مجلس إدارته أن يغض الطرف في الوقت الحالي، وبالتالي يقدم الدعم لبلد “كثيراً ما يوصف بأنّه أكبر من أن يُسمَح له بالإفلاس”.

وبشكل ربما يكون أكثر تشاؤماً، يرى تقرير كارنيغي، أنّ “مصر ربما أصبحت أكبر من أن يتم إنقاذها”. مضيفاً: “إذا كنت مدينًا للبنك بمبلغ 100 دولار، فهذه مشكلتك، وإذا كنت مديناً للبنك بمبلغ 100 مليون دولار، فهذه مشكلة البنك.” وبما أن مصر هي بالفعل ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي على مستوى العالم، فإنّها تخاطر بالتحول، مثل الأرجنتين، إلى أن تصبح “مشكلة الصندوق”.

لكن، ربما بقى بعض الوقت للإنقاذ، بالعمل في الداخل والخارج، عبر آليات طوارئ يمكن للسوق المصرية بضخامتها استيعابها، وتبقى الخطوة الأولى هي الحد من الاستيراد، إلى أقصى حد ممكن، من أجل تنشيط الصناعات المحلية، والتجارة البينية، حتى وإن كانت السلع المنتجة محلياً أقل جودة، إلى أنّ تفعيل آليات التبادل التجاري النوعي في الداخل، وتشجيع المبادرات التعاونية في القرى والمناطق الفقيرة، يبقى الحل الأخير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بدلاً من انتظار معجزة من السماء، ربما لن تأتي.