الاقتصاد المصري يقاوم السقوط، فهل تخضع القاهرة لشروط الراهن؟

تزامنت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مع تراجع مؤشرات الاقتصاد المصري بشكل حاد، في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتزايد أعباء خدمة الدين، وفي الأشهر الأولى من الحرب تراجعت عائدات مصر من صادرات الغاز الطبيعي، والسياحة، ورسوم عبور قناة السويس، بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.

حاولت القاهرة إنقاذ اقتصادها بعد الحرب على غزة من خلال الحصول على جملة من المساعدات، وجذب استثمارات الشركاء في الخليج وأوروبا، وهو نهج فيه قدر كبير من المخاطرة، فمن جهة تسببت حملات المقاطعة الشعبية لمنتجات الدول الداعمة لإسرائيل في تقليل فرص الاستثمار الأجنبي، ومن جهة أخرى تصاعدت الضغوط من أجل تفعيل مبدأ تكافؤ الفرص بين الشركات المملوكة للدولة، وخصوصاً المملوكة للمؤسسة العسكرية، والقطاع الخاص، لتعزيز النشاط التجاري، وهذا هو أحد أبرز شروط صندوق النقد الدولي.

أزمات حادة

منذ الأسابيع الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، علقت إسرائيل استخراج الغاز الطبيعي من حقل تمارا البحري، وأغلقت خط الأنابيب المؤدي إلى مصر، بداعي أن حماس قد تستهدف الخط الذي يمر تحت البحر، بينما لفتت تقارير إلى أن الإجراء الإسرائيلي عقابي أكثر منه استراتيجي، بسبب معارضة القاهرة لخطط التهجير وإدانتها المستمرة للعدوان الإسرائيلي.

وتحت تأثير الإجراء الإسرائيلي، قامت مصر بتمديد فترات انقطاع التيار الكهربائي، من أجل توفير المزيد من الغاز. وعلى الرغم من أن إسرائيل استأنفت صادراتها من الغاز إلى مصر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، إلّا أنّها لجأت مؤخراً إلى خفض إمدادات الغاز إلى مصر، مع بداية حزيران/ يونيو 2024، بنحو 26%، لتهبط الإمدادات من 1,15 مليار قدم إلى 850 مليون قدم يومياً، الأمر الذي دفع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، إلى خفض إمداداتها لشركات الأسمدة، بنسب تفاوتت بين 20 إلى 30%، كما زادت فترات انقطاع الكهرباء إلى ثلاث ساعات يومياً.

كما ألقت الحرب بظلالها على قطاع السياحة في مصر، وتأثرت منطقة جنوب سيناء بشدة، مع وصول نسبة الإلغاءات إلى 25%. كما جاء الانخفاض الحاد في إيرادات قناة السويس، والذي وصل إلى نسبة 50% في الربع الأول من العام الجاري بسبب تجنب شركات الشحن الملاحة في البحر الأحمر، لارتفاع تكاليف التأمين جراء هجمات الحوثيين على السفن التجارية، ليلقي بظلاله الثقيلة على الاقتصاد المأزوم.

إجراءات صعبة

لم يكن أمام الحكومة سوى الاستجابة لمطالب صندوق النقد الدولي؛ عبر تعويم سعر صرف العملة الوطنية، وتنفيذ جملة من الإصلاحات الهيكلية؛ من أجل رفع حصة مساهمة القطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية إلى 50% في العام 2025، بما يتماشى مع مطالب صندوق النقد، في إطار برنامج قرض الــ 8 مليار دولار، الأمر الذي قد يؤدي إلى تحسين مناخ الأعمال والاستثمار، عبر السماح للقطاع الخاص بقيادة النمو الاقتصادي.

وتصطدم تلك التصورات، بضرورة وجود آلية حكيمة للتعامل مع القطاع الاقتصادي العسكري، إذ يصر صندوق النقد الدولي على أنّ جميع الشركات العامة، بما في ذلك تلك التي يملكها الجيش، يجب خصخصتها إذا كانت مربحة، أو إغلاقها إذا كانت خاسرة.

وتكمن الصعوبة في أنّ قطاع الاقتصاد العسكري ذو طبيعة حساسة ومعقدة، ذلك أنّه يعمل في سياق تحقيق الاكتفاء الذاتي لجيش نظامي عامل، هو الأضخم من حيث العدد في الشرق الأوسط، بنحو نصف مليون فرد من القوات العاملة، ومثلهم من قوات الاحتياط، أضف إلى ذلك وجود قاعدة هائلة يملكها قطاع الإنتاج الحربي. وفوق كل هذا يأتي الاقتصاد العسكري ضمن سياقات التوازن السياسي في مصر، وامتيازات الأوليغارشية العسكرية، التي اكتسبتها بالتدريج منذ ثورة 23 تمّوز/ يوليو 1952.

ولعل المستهدف هو جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الذي يشرف على نحو 32 شركة أصبحت تتنافس مع الصناعات الخاصة في نحو 15 نشاطًا تشمل: تصنيع الأغذية، والإعلام، وتصنيع السيارات، والتبغ، والأدوية.

تحرك حذر

للمرة الأولى منذ أكثر من 3 أعوام، تبدو مؤشرات الاقتصاد المصري أكثر إيجابية، إذ تباطأ مستوى تضخم تكاليف مستلزمات الإنتاج في مصر، إلى أدنى مستوى له في أيار/ مايو الفائت، الأمر الذي دعم القطاع الخاص غير النفطي، وتباطؤ الضغوط التضخمية واتجاهها نحو معدل شبه مستقر، فيما يتعلق بظروف الطلب.

ويؤكد كبير الاقتصاديين في “ستاندرد آند بورز” ديفيد أوين، استقرار السوق المصري إلى حد كبير، حيث أغلقت مقاييس الإنتاج والطلبات الجديدة معظم فجواتها، واستقرت عند عتبة نمو تبلغ 50، كما شهد قطاعا الخدمات والبناء تحولًا إيجابياً في النشاط.

وبحسب أحدث بيانات “ستاندرد آند بورز”، وصل مؤشر مديري المشتريات في مصر للقطاع الخاص غير النفطي، إلى 49,6 في أيّار/ مايو، ارتفاعاً من 47,4 في نيسان/ أبريل، وهو أعلى مستوى منذ آب/ أغسطس 2021.

وعلى الرغم من المؤشرات الإيجابية، إلّا أنّ الانكماش المستمر في قطاعات حيوية أخرى، مثل التصنيع وتجارة الجملة والتجزئة، يُظهر أنّ التعافي لا يزال يسير بوتيرة بطيئة للغاية، وقد يستغرق مزيدًا من الوقت. قال ديفيد أوين.

ويمكن القول إنّ الانكماش المستمر في قطاعات التصنيع وتجارة الجملة والتجزئة، يظهر أنّ التعافي لا يزال غير متوازن، ولاسيما في ظل ارتفاع أعباء تكلفة الأجور، وهو ما أدى إلى استمرار زيادة الأسعار. وكذلك فإنّه على الرغم من اقتراب مصر من منطقة النمو الاقتصادي في أيار/ مايو الفائت، إلّا أن النشاط التجاري سجل أبطأ معدل منذ تمّوز/ يوليو 2023.

امتصاص الصدمة

منذ بداية 2024، رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة الرئيسية، بنسبة إجمالية قدرها 8%، تم تنفيذ 6% منها بالفعل، في اجتماع 6 آذار/ مارس الفائت، والذي خلص إلى تعويم الجنيه. وأدّت إجراءات التعويم إلى تحجيم السوق الموازية (السوداء)، بينما ضخت صفقة ميناء رأس الحكمة سيولة أنعشت الاقتصاد المتردي، ممّا تسبب في حدوث تحسن عام في القطاع غير النفطي في مصر. ولذلك، انخفضت مستويات تكاليف الأعمال الجديدة؛ لتحقق أبطأ معدل منذ أيلول/ سبتمبر2021، بينما زادت طلبات التصدير الجديدة للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر، وسط ارتفاع الطلب الأجنبي.

وبينما لا تزال قراءة مؤشر مديري المشتريات، أقل من مستوى 50 المحايد، إلا أنّ الارتفاع يشير إلى انخفاض هامشي في ظروف التشغيل، مع اقتراب القطاع الخاص غير النفطي من مرحلة الاستقرار، الأمر الذي يمكن أن يحفز نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمصر، ليصل إلى 5 – 6%.

وتشير بيانات شهر أيار/ مايو الفائت إلى تراجع الضغوط التضخمية، الأمر الذي أسهم في زيادة طلبات التصدير الجديدة.

ويمكن القول إن القاهرة نجحت في امتصاص صدمة تعويم الجنيه؛ بفضل التعزيزات المالية التي ضخها صندوق النقد الدولي، وقيام الإمارات بضخ 35 مليار دورلار على دفعتين، مع تقديم الاتحاد الأوروبي عدة وعود بتقديم مساعدات جديدة؛ ففي 17 آذار/ مارس الفائت، التقى رؤساء وزراء النمسا وبلجيكا واليونان وإيطاليا مع الرئيس السيسي في القاهرة، للإعلان عن حزمة مساعدة جديدة مقترحة بقيمة 7,4 مليار يورو.

أدّى ذلك كله إلى استقرار الاقتصاد، وسمح لمصر بتفادي تداعيات تخفيض قيمة العملة بأقل مما كان متوقعاً. وكذلك السعي تجاه سد فجوة التمويل حتى عام 2027، حيث من المتوقع أن تنخفض أقساط القروض.

تصحيح أخطاء الماضي

هذه الحركة إلى الأمام تتطلب نهجاً اقتصادياً لا مجال فيه لأخطاء الماضي الفادحة، ذلك بأن الإصلاحات باتت مرتبطة بشكل عضوي بحزمتي صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وشرطاً لدخول الاستثمار الخليجي، الأمر الذي يعني ضرورة تقنين الإنفاق على البنية التحتية، وتفعيل شروط تكافؤ الفرص أمام الشركات الخاصة.

ويطالب صندوق النقد الدولي الحكومة، بإلغاء الإعفاءات الضريبية والمعاملة التفضيلية التي تتمتع بها الشركات المملوكة للدولة، لتفادي تعليق شرائح القروض، في حالة تجاهل مثل هذه الإجراءات.

ويمكن القول إنه من دون إصلاحات جوهرية؛ لتعزيز نشاط القطاع الخاص وتنشيط الصادرات، فإن خطر الانزلاق نحو حافة الانهيار الاقتصادي ما زال ممكناً.

ويؤكد الاتحاد الأوروبي التزامه بدعم برنامج الإصلاحات، شريطة تنفيذ بعض المطالب في مجال حقوق الإنسان في مصر، بشكل تدريجي، وكذلك تعزيز ضوابط الهجرة الأفريقية عبر الشوطئ المصرية.

وتعكس صفقة رأس الحكمة، توجها خليجياً نحو انتهاج منطق الاستثمار في مصر، ونهاية عصر الدعم غير المشروط، وهو ما تعكسه كواليس الصفقة، حيث سعت القاهرة إلى الحصول على منحة، ثم على قرض يتم سداده من عائدات قناة السويس، وكلاهما رفضته الإمارات. وفي نهاية الأمر وافقت شركة أبو ظبي التنموية القابضة، على دفع الــ 35 مليار دولار، مقابل حقوق بناء منتجعات سياحية وفنادق وأماكن ترفيهية ومرافق خدمية، على مساحة 170 كيلومتراً مربعاً في منطقة رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط.

وبحسب المعطيات السابقة، فإن القاهرة لا تملك بديلاً عن المضي قدماً في طريق الإصلاح، حيث إنّ هامش المناورة لم يعد متاحاً. وعلى الرغم من صعوبة تخارج المؤسسة العسكرية من الاقتصاد بشكل كلي، إلّا أن طرح الشركات المملوكة للقوات المسلحة في البورصة، وعرضها للاكتتاب العام، وتمكين المواطنين شراء أسهم فيها، ربما يكون خطوة نحو خصخصتها. لكن الطريق ما زال طويل، وبات مرتهناً بالتحولات الحادة في الإقليم المشتعل، ولاسيما أنه لم يعد بمقدور الاقتصاد المصري مواجهة أي مفاجآت جديدة.