الاقتصاد المصري في ضوء التوترات الجيوسياسية بالمنطقة

تواصل الحكومة المصرية محاولاتها الرامية إلى تعزيز دور الدولة كعامل تمكين لنشاط اقتصادي يقوده القطاع الخاص، وذلك في ظل ارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق المتقدمة، والصراعات الجيوسياسية الأخيرة. لكن القطاع الخاص يظل عاجزاً، وهو واجه ارتفاعاً هائلاً في تكلفة التمويل بسبب تشديد السياسات النقدية على المستويين المحلي والعالمي، الأمر الذي أدّى إلى استمرار احتياجات الاقتراض العام المرتفعة، ومزاحمتها الإقراض للقطاع الخاص. وعلاوة على ذلك، يواجه القطاع الخاص تراجع الاستهلاك مع تدهور القوة الشرائية للمصريين بسبب التضخم. كذلك تراجع النشاط في القطاع الخاص غير النفطي في مصر بشكل مطرد، مع استمرار التضخم في التأثير السلبي على معدلات الطلب، وفقاً لمسح مؤشر مديري المشتريات العالمي، الذي أجرته وكالة “ستاندرد أند بورز”.

وأظهر استطلاع أجرته “رويترز” أخيراً، أن الاقتصاد المصري سينمو بشكل أبطأ مما كان متوقعاً له في السابق، مع تآكل القوة الشرائية بسبب التضخم وضعف الجنيه المصري.

خفض التصنيف

وقد خفضت وكالة “ستاندرد أند بورز” أخيراً التصنيف الائتماني السيادي طويل الأجل لمصر، بدرجة واحدة من “B”” إلى “B-“، مشيرة إلى أنّ ذلك يرجع إلى ضغوط التمويل المتزايدة على البلد. وتوقعت الوكالة تأثر اقتصاد مصر جراء الحرب المستمرة في قطاع غزة، منذ اختراق حركة حماس منطقة غلاف غزة في عملية نوعية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

وكانت “ستاندرد أند بورز” قد وضعت مصر على نظرة مستقبلية سلبية، منذ نيسان/ أبريل الفائت، قبل أن تعلن تخفيض التصنيف، وهو أول تخفيض للتصنيف الائتماني لمصر من قبل الوكالة منذ أيار/ مايو 2013.

ويمكن القول إن قرار التخفيض كان متوقعاً، ولا سيما بعد تخفيض وكالة “موديز” التصنيف الائتماني لمصر، في وقت سابق من تشرين الأول/ أكتوبر، إلى “Caa1” من B3″”، بسبب تدهور القدرة على تحمل الديون في البلاد.

وقالت “ستاندرد أند بورز” في بيان لها: “إنّ التقدم البطيء في الإصلاحات النقدية والهيكلية الرئيسية، أدى إلى تأخير صرف الأموال المتعددة الأطراف والثنائية، الضرورية لتغطية احتياجات مصر المرتفعة من التمويل الخارجي.”

ولفتت إلى أن إغلاق منصة غاز تمار الإسرائيلية، أدى إلى خفض واردات مصر من الغاز إلى 650 مليون قدم مكعب يومياً، بدلاً من 800 مليون قدم مكعب يومياً، وهذا التخفيض يقلل من قدرة مصر على تلبية الطلب المحلي، وكذلك تصدير الغاز الطبيعي المسال.

جدير بالذكر أن تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، أدت إلى تأثر قطاع السياحة في مصر، حيث أجلت بعض الشركات حجوزاتها، بينما ألغتها أخرى.

وعلى الرغم من انخفاض التصنيف الائتماني السيادي لمصر بالعملتين المحلية والأجنبية، من B”” إلى “B-“، إلّا أنّ النظرة المستقبلية أصبحت مستقرة على المدى الطويل، وتغير التصنيف الائتماني قصير الأجل، من “-B” إلى “B”. وذلك بفضل التحسن الهيكلي النسبي، والإصلاحات التي نفذتها الحكومة المصرية مؤخراً، والتي ساعدت على تحقيق الانضباط المالي.

وأشارت “ستاندرد أند بورز” إلى أن التوقعات المستقرة بشأن الاقتصاد المصري توازن ما بين مخاطر عدم قدرة السلطات المصرية على تمويل عمليات سداد عالية للديون الخارجية، وما بين قدرتها على معالجة النقص في العملة الأجنبية، وإمكانية تسريع وتيرة الإصلاحات النقدية والاقتصادية الرئيسية، التي من شأنها أن تساعد على سد فجوة التمويل الخارجي الكبيرة.

وبحسب الأرقام، تحقق فائض أولي قدره 1,63% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل فائض أولي 1,3% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2021/ 2022، كما بلغ إجمالي عجز الموازنة 6% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 6,1% خلال السنة المالية 2021/ 2022. وكذلك نمت الإيرادات الضريبية بقوة بنسبة 27,5%.

وتوقعت “ستاندرد أند بورز” استمرار الانضباط المالي، من خلال تنفيذ إجراءات فعالة لتحديث النظام الضريبي، بالإضافة إلى جهود الحكومة لترشيد الإنفاق خلال السنة المالية 2023/ 2024، بما يضمن تحقيق فائض أولي بنسبة 2,5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأوضحت الوكالة في تقريرها، أنها قد ترفع التصنيف السيادي لمصر، إذا ما تم جذب المزيد من العملات الأجنبية إلى الاقتصاد المصري، معتبرة ذلك مورداً إضافياً يمكن تحقيقه من خلال تسريع برنامج الطرح في الفترة المقبلة.

تكلفة تأخير تحرير سعر الصرف

على الرغم من تحديات سيولة النقد الأجنبي الحالية، أخرت مصر إجراءات تحرير العملة كجزء من اتفاقية تسهيلات صندوق النقد الممددة، البالغة قيمتها 3 مليارات دولار، والتي تم التوقيع عليها في كانون الأول/ ديسمبر 2022، خوفاً من الضغوط التضخمية على الأسر المصرية، إذ وصل معدل التضخم في مصر إلى مستوى قياسي بلغ 38% في أيلول/ سبتمبر الفائت.

في المقابل، فإن تكلفة التأخر في تحرير سعر الصرف، أصبحت غير محتملة، وبحسب “ستاندرد أند بورز”، فقد أدى ذلك إلى انخفاض في التحويلات المطلوبة وتدفقات الاستثمار، إلى جانب ضعف ثقة القطاع الخاص.

وتترقب الأوسط الاقتصادية في مصر التصنيف الائتماني الذي سوف تصدره وكالة “فيتش” التي تصنف مصر حالياً في المرتبة B مع نظرة مستقبلية سلبية.

وربما يؤدي أيّ تصنيف سلبي جديد، إلى الإسراع في تحرير سعر الصرف الذي تحاول الحكومة تأجيله إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، المقررة في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، ذلك بأن تخفيض التصنيف يمنح المستثمرين رسالة سلبية، إزاء وضع الاقتصاد الكلي الحالي في مصر، وسيؤثر سلباً على الاقتراض الخارجي، بالإضافة إلى زيادة المضاربة على العملة.

وتحاول الحكومة المصرية تلافي ذلك، عن طريق إصدار تعديلات تشريعية جديدة لإلغاء الإعفاءات الضريبية والجمركية على الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية للجهات والشركات المملوكة للدولة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تحقيق المنافسة العادلة في السوق المصرية، وبالتالي تعزيز قدرة القطاع الخاص.

وفي هذا السياق، نفذت الحكومة صفقات تخارج بنحو 2,5 مليار دولار، خلال الربع الأول من السنة المالية 2023/ 2024، وكانت النتيجة زيادة تدفقات النقد الأجنبي، وخصوصاً الخليجي، وتوفير التمويل اللازم لتلبية الاحتياجات، وهو ما انعكس على سوق الأوراق المالية المصرية الذي بلغ مؤشره الرئيسي (EGX30) أعلى مستوياته على الإطلاق، مرتفعاً بنسبة 0,6% بالتزامن مع إغلاق معظم أسواق الأسهم في منطقة الخليج على انخفاض.

وبحسب “ستاندرد أند بورز”، ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، إلى ما يقرب من 10 مليارات دولار في السنة المالية 2023، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، وقالت الوكالة أنها تتوقع أن يظل الاستثمار الأجنبي المباشر عند هذا المستوى في سنة 2024. وأضافت أن الحكومة تعمل على بيع أصول أخرى بقيمة 4,6 مليار دولار هذا العام.

وعلى الرغم من أن كل الطرق تؤدي إلى تحرير سعر الصرف، وبداية جولة جديدة من جولات التعويم، لكن نجاح الأمر يرتبط بقدرة البنك المركزي المصري على تأمين احتياطيات كافية من النقد الأجنبي مسبقاً، ومن دون ذلك سوف يزداد عجز الميزانية، مع استمرار السوق الموازية (السوداء) للدولار، وارتفاع معدلات التضخم بشكل جنوني. وبحسب الخبراء، فإنّ الهدف الرئيسي لأي تخفيض لقيمة العملة في المستقبل، هو تحقيق سعر صرف مستدام لمقاصة السوق داخل النظام المصرفي والقضاء على السوق السوداء.

محاولات الإنقاذ

كان من المتوقع، وفقاً لاتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي، أن يتم استعادة استقرار وضعية الاقتصاد الكلي، مع دعم تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، بتوفير تمويل بقيمة 3 مليارات دولار أميركي، بالإضافة إلى تمويل آخر محتمل بقيمة مليار دولار، من جهاز “القدرة على الصمود والاستدامة” التابع لصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى الحصول على تمويل إضافي بقيمة 5 مليارات دولار من خلال حزمة متعددة السنوات من الدعم الإقليمي والدولي، بما في ذلك من البنك الدولي.

كل ذلك كان مشروطاً بتحرير سعر الصرف، وخروج الدولة وكذا المؤسسة العسكرية من السوق، بهدف تحسين مرونة الاقتصاد الكلي، وتعزيز الإصلاحات الهيكلية، لتمكين القطاع الخاص من النمو، وبالتالي دعم التعافي المستدام. وبحسب البنك الدولي، فإنه إلى جانب الاستجابات السياسية الفورية، يمكن تنفيذ مجموعة من الإصلاحات لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات الخارجية.

وإلى الآن، فإن كل التوقعات تشير إلى انهيار بيئة الاقتصاد الكلي العامة في مصر، خلال السنوات المالية 2022/ 23-24، بسبب الصدمات العالمية المتتالية، قبل أن تبدأ في التحسن على المدى المتوسط، شريطة استمرار البلاد في المضي قدماً في تحقيق الاستقرار والإصلاحات الهيكلية. ويظل خلق الحيز المالي أمراً بالغ الأهمية، لتعزيز رأس المال البشري والمادي، وتعزيز السياسة التجارية وتسهيلها، فضلاً عن التحسينات في بيئة الأعمال الأوسع نطاقاً، وكل هذا، وبحسب توقعات البنك الدولي نفسه، “يمكن أن يطلق العنان لإمكانات القطاع الخاص في الأنشطة ذات القيمة المضافة الأعلى، والموجهة نحو التصدير، والضرورية لخلق فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة.”

وعليه، أصبح نمو الاقتصاد المصري يمثل معضلة كبيرة، فمن جهة لم يعد ممكناً تحقيق أي نمو من دون تحرير سعر صرف الجنيه، وبالتالي خلق بيئة استثمارية جاذبة، وتحقيق نمو أكثر دينامية يقوده القطاع الخاص. ومن جهة أخرى، فإن التعويم في ظل النقص الحالي الحاد في العملة الصعبة، سوف يؤدي بالضرورة إلى انهيار القدرة الشرائية بشكل تدميري، وارتفاع التضخم بصورة كبيرة، ولفترة طويلة، ذلك بأن نتائج الإصلاحات وفق النهج المتبع شديدة البطء، كما أن آثارها فيما بعد سوف تكون مرتبطة بشرائح بعينها من المجتمع، في ظل نظام تعليمي غير عادل، ولا يدعم تكافؤ الفرص، ما يحلينا بالضرورة على إشكالية أخرى ترتبط بمعالجة المعايير المرتبطة بالمنافسة، في ظل نقص المهارات لدى السواد الأعظم من خريجي التعليم الحكومي العام، وفي ظل أوجه القصور في الحوكمة والشفافية وسيادة القانون، وكذلك الحاجة إلى تحسين الحيز المالي وكفاءة المالية العامة.