الأزمة المالية في مصر والموقف الاقتصادي

في الوقت الذي تعاني فيه القاهرة من نقص حاد في العملات الأجنبية، أعلن البنك المركزي المصري، في 21 حزيران/ يونيو 2023، عن تلقيه ودائع كبيرة من ليبيا وقطر. وكشف البنك في تقرير أن الوديعتين، بقيمة مليار و700 مليون دولار، إحداهما بقيمة مليار دولار من قطر، والآخرى بمبلغ 700 مليون دولار من ليبيا. وبذلك رفعت الودايعتان الجديدتان مستوى الاحتياطي الأجنبي للبنك إلى 34,7 مليار دولار، وأصبحت قطر تملك ما مجموعه 3 مليارات دولار في البنك المركزي المصري، وليبيا 900 مليون دولار.

يأتي هذا الإعلان في الوقت الذي تستعد فيه القاهرة لزيارة وفد صندوق النقد الدولي، في الأسبوع الأول من تمّوز/ يوليو، وبالتزامن مع تصريحات أدلى بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ألمح فيها إلى وقف التعويم المحتمل للجنيه إذا استمر ارتفاع الأسعار، وقال: “نحن مرنون في سعر الصرف، لنكن واضحين، متى يمس الأمر بالأمن القومي المصري، ويضيع الشعب المصري.. لا.”

وكان صندوق النقد الدولي وافق على قرض بقيمة 3 مليارات دولار لمصر أواخر العام الماضي، لمواجهة فجوة تمويلية قدرها 17 مليار دولار، على مدى الأعوام الأربعة المقبلة، في مقابل تحديد سعر مرن للجنيه، وتخارج الحكومة، وكذلك المؤسسة العسكرية من القطاع الخاص.

تسرب الاحتياطيات

وقالت كريستالينا جورجيفا، العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، إن مصر بحاجة إلى العمل على منع تسرب احتياطيات النقد الأجنبي الناجم عن تباين أسعار الصرف بين السعر الرسمي والسوق الموازي. ولفتت في مقابلة مع “الشرق بلومبيرغ” إلى أنه “عندما يكون هناك دعم للعملة، ولكن ليس هناك ما يكفي من النقد الأجنبي، فإن هذا يقلل من الاحتياطيات، ويجعل الوضع في البلاد أكثر صعوبة.”

وتأتي تصريحات العضو المنتدب، بعد أن صرح الرئيس السيسي، بأنه ليس لدى مصر نية لمزيد من خفض قيمة الجنيه، وسط موجة تضخمية قياسية أدت إلى تراجع القوة الشرائية للمصريين.

وتستعد القاهرة  لزيارة نائب العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي لمناقشة الوضع الاقتصادي وجهود الإصلاح. وتنتظر الحكومة المصرية مراجعة صندوق النقد الدولي لاستلام الدفعة الثانية من القرض، بعد أن تأجلت المراجعة من آذار/ مارس الفائت، إلى تموز/ يوليو.

العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، قالت إن هناك ثلاثة محاور يتعين على مصر العمل عليها لتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد، وهي: إخراج الدولة من الأنشطة التي تناسب القطاع الخاص، وزيادة الدعم للأشخاص الأكثر احتياجاً مع رفع الدعم عن الأثرياء، وتعزيز الاحتياطي النقدي في مصر.

ويمكن القول إنه ليس من السهل إقدام الحكومة المصرية على تفعيل العمل بهذه المحاور بشكل نهائي وقاطع، ذلك بأن تخارج الدولة من القطاع الخاص، وبالتبعية المؤسسة العسكرية، ليس عملاً سهلاً، على الرغم من قيام الحكومة بالشروع في ذلك بالفعل، لكن الخطوات تبقى هائة ومتأنية. أما ما يتعلق بمراجعة الفئات الأكثر احتياجاً للدعم، فالأمر ليس يسيراً عندما يتعلق بأكثر من مئة مليون مواطن.

الشق الثالث الخاص بتعزيز الاحتياط النقدي، يعني ببساطة رفع أعباء تحمّل فارق سعر الصرف بين السعر الرسمي للعملة الأجنبية وسعرها السوقي، وبالتالي التعويم الكامل للجنيه لتقويض السوق الموازية، وهو أمر له تداعيات خطيرة على القدرة الشرائية للمواطنين، كما أنه سوف يؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، ومن ثم الركود الاقتصادي بفعل الخلل الناتج عن انخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم.

تحول موقف الدائنين

لكن لم تُعد خطط الإنقاذ الاقتصادي غير مشروطة، بل خلافاً لذلك أصبح الدعم الخليجي مشروطاً بجملة من المطالب، جعلت الشركاء في الخليج يعملون بشكل منفرد مع صندوق النقد الدولي للضغط على القاهرة من أجل إجراء المزيد من الإصلاحات الهيكلية، ولم يعد لدى الشريكان الرئيسيان، الرياض وأبو ظبي، رغبة في إيداع الأموال أو تقديم المنح والقروض بلا مقابل، وبات لزاماً على القاهرة الاستجابة للضغوط الخليجية ووقف مشاريع البنية التحتية التي تديرها الحكومة، وتقليل عدد الشركات المملوكة للجيش.

هذا التحول الاستراتيجي اللافت يتطلب استجابة استثنائية من الحكومة المصرية التي ربما تتحرك وفق عدة خطوات تراعي فيها احتياجاتها، وكذلك متطلبات أمنها القومي، وفق جملة من الحسابات الإقليمية المعقدة، في ليبيا والسودان وشرق المتوسط.

إصلاحات وبدائل

نظراً لتخفيض قيمة العملة المحلية، وارتفاع تكاليف خدمة الديون، بالتزامن مع انسحاب المستثمرين، والعجز الهيكلي في الحساب الجاري، ربما تلجأ مصر إلى تخفيض جديد لسعر الجنيه، بشكل حذر ولمرة واحدة، مع رفع أسعار الفائدة مرة أخرى لاحتواء التضخم الناتج، ومنع هروب الأموال، لكن مجهوداً أكبر يتطلب منع الانفلات.

ويمكن أن يؤدي سعر الصرف الأكثر مرونة، وليس التعويم الكامل، إلى تعزيز القدرة التنافسية وجذب الاستثمار الأجنبي والسياحة، ودعم صادرات الصناعات الجديدة، وبالتالي جذب المزيد من الاستثمارات، لكن الأمر يتطلب شفافية كبيرة لتشجيع المساءلة والحكم الرشيد، وضمان قواعد اللعبة العادلة، ذلك بأن الإنصاف في السياسة الاقتصادية، يضمن أن تفيد مكاسب النمو جميع الطبقات.

وفيما يتعلق بالإصلاحات، أعلنت مصر في شباط/ فبراير الفائت، عن خطط لبيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة في قطاعات تشمل: البنوك، والتمويل، والعقارات، والسياحة، والخدمات اللوجستية، وتوليد الكهرباء، وساهم قرار طرح أسهم خاصة بدلاً من أسهم عامة، إلى جعل المستثمرين الخليجيين هم الأكثر احتمالاً لشراء حصص في هذه الشركات.

وتحتاج القاهرة إلى إتخاذ تدابير جديدة للتقشف المالي، مع الإلغاء التدريجي لدعم أسعار الوقود وبعض الخدمات، بشكل تصاعدي لا يُعرّض الطبقات الأكثر احتياجاً للمزيد من الأعباء. وربما يتطلب الأمر توقف مشروعات البنية التحتية الضخمة لتقليل الضغط على الحسابات الخارجية، وكذلك وضع معايير واضحة للتدخل الحكومي في الاقتصاد، وزيادة الشفافية في عمليات المشتريات العامة، وخصخصة الشركات غير الاستراتيجية، وإنهاء الإعفاءات الضريبية وغيرها من المزايا المقدمة لكبار رجال الأعمال.

متغيرات ومخاطر

ربما تضغط الحكومات الأوروبية على صندوق النقد لتخفيف مطالبه، تجنباً لمخاطر عدم الاستقرار في مصر، وهو ما قد يؤجل عملية التعويم المرتقبة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن تظل دول الخليج هي المتغير الرئيسي في المعادلة، إذ ينبغي التخلص من الأجواء المتوترة التي تتسم بخيبة أمل متبادلة، في ظل احتياج مصر إلى تمويل خليجي لسد عجزها الخارجي، وخصوصاً أن برنامج صندوق النقد الدولي يعتمد على مساهمة دول الخليج بمبلغ 10 مليارات دولار على مدى الأعوام الخمسة المقبلة، فضلاً عن تعهدها بتجديد 28 مليار دولار من الودائع لدى البنك المركزي المصري.

ويتطلب الأمر إلى أبعد من الإصلاحات الاقتصادية، ذلك بأن التعارض في السياسات بين القاهرة وحلفائها الافتراضيين في الخليج أصبح كبيراً، وظهر ذلك بقوة إبان الأزمة السودانية، حيث تبدو القاهرة وأبو ظبي على طرفي النقيض، كما أصبح التوافق في ليبيا هشاً، في ظل توازنات مصرية جديدة، أدخلها إلى المعادلة متغير عودة العلاقات المصرية التركية، وبالمثل تبدو ورقة العلاقات مع إيران أكثر خطورة، كما أن الروابط القوية بين جهاز المخابرات المصري وحركة “حماس” في قطاع غزة، يزعج الحلفاء في أبو ظبي.

وتطالب دول الخليج الآن بالأصول العامة في مقابل تقديم الدعم المالي، وقد أدّت هذه السياسة الجديدة، من قبل، إلى قيام صناديق الثروة السيادية الخليجية بشراء حصص في شركات مصرية، كما تسبب الأمر في حصول اختلافات بشأن قيمة هذه الأصول، إذ أصبحت دول الخليح تضع الحصول على عوائد استثمارية ضخمة ضمن أولوياتها، وفي هذا السياق، علّق صندوق الاستثمارات العامة السعودي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 خططاً لشراء البنك المتحد، بعدما أصرّت مصر على تحديد سعر الأصول بالدولار، وليس بالجنيه، وهو ما رفضه السعوديون.

ومع استمرار الشكوك بشأن استعداد الشركاء الخليجيين لسد الفجوات المالية في مصر، على القاهرة أن تبحث عن طرق تمويل بديلة، مثل تجميع الأرباح المستقبلية المتوقعة لقناة السويس في سندات، يمكن بيعها للمستثمرين الأجانب، ولا سيما أن القناة تتمتع بمكانة ائتمانية مميزة. وكذلك تنشيط عمليات التصنيع المحلي المحدودة، جنباً إلى جنب مع الصناعات الكبرى، وتشجيع التعاونيات الريفية والمحلية، وتطوير قطاع الطاقة، بما في ذلك الطاقة الخضراء.

كما يمكن أن تؤدي عملية البحث عن مصادر جديدة للغلال، وبالتحديد من إيران، إلى علاج فارق الأسعار الكبير الذي نتج عن الحرب الروسية الأوكرانية، والمضي قدماً في تفعيل مشاريع زراعة القمح في الخارج، وغير ذلك من الأفكار المساعدة، لمنع الكارثة.