الأزمات في تونس الثابت في ظل المتغيرات السياسية

يحمل يوم 25 تموز/ يوليو رمزية تاريخية عند التونسيين، لأنه نفس التاريخ الذي انتقلت فيه السلطة التونسية، من نظام ملكي إلى نظام جمهوري وذلك في سنة 1957، وقد تمّ مباركة هذه الخطوة من قبل عوام الشعب، لعدة اعتبارات أهمها السخط على توجهات “البايات الحسينيين” وسياستهم عبر التاريخ تجاه العامة، وكذلك انبطاحهم أمام السلطة الاستعمارية للمحافظة على مكتسباتهم السياسية، من دون اعتبار لرغبات الشعب وتطلعاته، وكذلك نضالاته إزاء المستعمر. وبعد مرور أكثر من 60 عاماً يعيد التاريخ الرمزية ذاتها، لكن باختلاف الفاعلين السياسيين، فحراك 25 تمّوز/ يوليو 2021، باركته الأغلبية لأسباب متعددة، ولنفهم أسباب هذا الدعم الشعبي للحراك، يجب العودة للأسباب التي شكلت الرفض المجتمعي لسياسة الحكومة آنذاك.

عشرية حركة النهضة

أخفقت حركة النهضة التي سيطرت على المشهد السياسي لعقد كامل، إبان الثورة، في تحقيق المطالب الشعبية، واتسمت سياستها بالبراغماتية الحزبية، الأمر الذي نتج عنه ظهور عدة أزمات، وعلى رأسها الأزمة الاجتماعية المتمثلة بارتفاع نسبة البطالة خلال عشرية حكمها، مقارنة بما قبل الثورة التي قامت أساساً على مطلبية التشغيل. كذلك كثرت الاحتجاجات الشعبية ولاسيما العمالية، إلى جانب تراجع القدرة الشرائية للمواطن التونسي مقارنة بدخله، وهو ما ولد نوعاً من السخط الشعبي، وخصوصاً على سياسة الاحتكار التي سادت تلك الفترة. وقد تعمقت الأزمة أكثر مع جائحة كورونا التي كشفت عن نقص لوجيستي حاد في المستشفيات الجامعية والداخلية، الأمر الذي أدى إلى العديد من الوفيات، ناهيك عن ارتفاع حالات التسرب المدرسي، وهو ما بات خطراً يهدد المنظومة التعليمية التونسية، ومؤشراً خطيراً لعودة الأُميّة ولاسيما في الأرياف.

وتعد الأزمة الاقتصادية عاملا مهماً لدعم حراك 25 تمّوز/ يوليو، نظراً لارتفاع المديونية الخارجية لتونس، والتي بلغت حسب تصريحات إعلامية لبعض المسؤولين 120 مليار دينار سنة 2020، بعدما كانت في حدود 20 مليار دينار فقط سنة 2010، ما دفع التونسيين إلى التساؤل عن مصير الهبات والإعانات الدولية التي تلقتها البلاد التونسية ما بعد الثورة.

وبدوره أحدث مشروع قانون المصالحة الوطنية جدلاً كبيراً بين السياسيين الداعمين لهذا المشروع وبين أفراد الشعب وممثلي المجتمع المدني الرافضين له، باعتباره تبيضاً للفساد وسوء التصرف المالي، علماً بأن أساس المطالب الشعبية هو محاسبة ومُساءلة كل الذين ساهموا من قريب أو بعيد في احتكار الثروات لمصلحة فئة دون أخرى، الأمر الذي أدى إلى غياب مقومات العدالة الاجتماعية، وكذلك سيطرة الفاسدين على كل القطاعات.

وأخيرا نجد الأزمة السياسية التي تجلت إعلامياً من خلال الصراع القائم تحت قبة البرلمان، والذي بلغ حد تبادل العنف والاعتصام داخل مجلس الشعب، بين ممثلي الإسلاميين والدستورين، ومن نتائج هذا الصراع انعدام ثقة المواطنين في الفاعلين السياسيين بمختلف توجهاتهم الحزبية، خدمة لعصبيتهم الحزبية لا المصلحة الوطنية. لذلك كانت كل الظروف مهيأة تماما لحراك 25 تمّوز/ يوليو الذي باركه الشعب التونسي، باستثناء الداعمين والمنتمين للأحزاب التي كانت تحت قبة البرلمان، والذي عَدُوهُ انقلاباً على الشرعية.

ما بعد الحراك

يبرز السؤال التالي في هذا السياق: لماذا دعم التونسيون إجراءات الرئيس قيس سعيّد؟

إنّ المتأمل في رمزية 25 تمّوز/ يوليو تاريخياً، سيرى هيمنة صورة الزعيم القائد المنقذ وغيرها من التوصيف، فبورقيبة أنقذ التونسيين من جور حكم البايات، ووضع أسس الدولة الحديثة، مركزاً على التعليم، وقام بعدد من التجارب الاقتصادية، رغم فشل أغلبها، وثم استكمل النظام النوفمبري نفس الأهداف، وفي 25 تمّوز/ يوليو 2021 رأى التونسيون أنّ الرئيس قيس سعيّد، ربما يكون الأجدر بالثقة، والقادر على التغيير، وهو الذي لم يكن له أي انتماء حزبي، وبالتالي ولاءه سيكون للوطن، خلافاً للمترشحين المنتمين لأحزاب بعينها، وهو كذلك أستاذ جامعي يحظى باحترام وتقدير من الشعب، وخلال حملته الانتخابية راهن على خطاب اعتبره المعارضون مغالاة في الشعبوية، إلّا أنّ هذا الخطاب لامس الشعب آنذاك، بما يخص وجوب محاسبة رموز الفساد في تونس.

فما هي اهم التغييرات التي سادت ملمح الجمهورية التونسية الجديدة؟

في بداية الأمر، رأى التونسيون في قيس سعيّد الرجل المنقذ، على الرغم من انعدام خبرته السياسية، وأكثر ما كانوا يراهنون عليه هو الجانب الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص محاربة الاحتكار والحد من ارتفاع الأسعار، إلّا أن المأمول كان شيء والواقع شيء آخر. فقد تعمقت أزمة الوضع الاقتصادي أكثر، وبات الأمل في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي دامت لأكثر من سنتين وتعمقت خلالها الأزمة الاقتصادية، وبالتالي تقهقرت الأوضاع الاجتماعية، ليخرج في نهاية المطاف الرئيس بتصريح قال فيه إنه لا يقبل إملاءات صندوق النقد الدولي، التصريح الذي وصفت المعارضة بغير المسؤول، وخصوصاً مع تنامي عجز تونس عن تغطية حاجات إنفاقها، إذ تراجعت القوة الشرائية للدينار التونسي، في وقت بلغ دينها العام 80% من إجمالي الناتج المحلي، ووصل التضخم إلى نحو 11%. إلى جانب ظهور إشكاليات في توريد بعض المواد الأساسية، التي انقطعت في الأسواق التونسية، وحتى وإن وجدت فهي بكميات محدودة، مثل: السكر والزيت النباتي والأرز والقهوة والحليب.

الاقتصاد اليوم

إلى اليوم مازالت تونس تواجهه التحديات الاقتصادية المرتبطة إمّا بارتفاع الأسعار تارة، وإمّا بسياسة الاحتكار وانقطاع المواد الأساسية من الأسواق التونسية تارة أخرى. ومن المفارقات الغريبة أن التونسيين كانوا يأملون فعلاً، بأن حقبة الجمهورية الجديدة ستحمل لهم تغيراً اقتصادياً يتنفسون من خلاله الصعداء، إلّا أن المؤشرات التي يوضحها الجدول أعلاه، تعكس واقع الأزمة، مقارنة بما كان في فترة حكم النهضة.

وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الفقر والبطالة والتضخم وغيرها من مؤشرات العجز، إلّا أن أغلب التونسيين لم يقوموا باحتجاجات إزاء هذه الأزمة التي حاول أنصار المعارضة استغلالها لتأجيج الرأي العام ضد الرئيس وتوجهاته السياسية والاقتصادية. فالاعتقاد السائد لدى التونسيين، أن الرئيس يواجه لوبي فساد ضخم يحاربه، لذلك وجب على القوى الشعبية معاضدة جهوده، ولاسيما المتمثلة بحملات الاعتقالات التي طالت كبار رجال الأعمال المتهمين بالتهرب الضريبي، أو الذين قاموا بتجاوزات غير قانونية تضر بالمصلحة العامة، ناهيك عن اعتقال مدراء عامين ورؤساء مصالح في الإدارات العمومية، وهي خطوة تمت مباركتها من أفراد الشعب، وخصوصاً أن سعيّد هو الوحيد الذي تجرأ على القيام بهذا الإجراء. ووصل الدعم الشعبي له من خلال تجنيد العديد من الصفحات الفيسبوكية لصالحه، وتمجيد وتثمين قراراته، والذود عنه أمام المعارضين الافتراضين، الذين يحملونه مسؤولية الأزمة الاجتماعية التي يعيشها المواطنون اليوم.

وعلى الرغم من المساندة الشعبية لسياسة الاعتقالات التي طالت العديد من الوجوه السياسية مثل: عبير موسي، وراشد الغنوشي، والصحبي عتيق، وخيام التركي، وغازي الشواشي، وغيرهم، إلّا أن تونس شهدت منذ 2023 تظاهر العشرات من معارضي الرئيس سعيّد، وسط العاصمة للمطالبة بإطلاق سراح من وصفوهم بالمعتقلين السياسيين، رافعين شعارات منددة بحكم سعيّد، والذي وصفوه بالانقلاب على الشرعية وعلى الديمقراطية، وقد ساندت منظمة العفو الدولية المعارضة، متهمة سعيّد باتخاذ مزيد من الخطوات القمعية، عبر إلقاء عشرات الخصوم السياسيين والإعلاميين ومنتقدي السلطة في السجون، وانتهاك استقلالية القضاء، وتجاوز مواثيق حقوق الإنسان. وقالت المنظمة إنّ سعيّد وحكومته أضعفا بشدة احترام حقوق الإنسان في تونس منذ هيمنته على السلطة، وذلك عبر إصدار مرسوم تلو الآخر وتوجيه صفعة تلو الأخرى.

أزمة المهاجرين الأفارقة

ومن ضمن الانتقادات لما يُعد انتهاكاً لحقوق الإنسان، تمثل أزمة المهاجرين الأفارقة نقطة مهمة في نقد سياسة تونس. فقد أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش، إلى أن القوات الأمنية والعسكرية، ارتكبت انتهاكات خطيرة ضدّ المهاجرين، واللاجئين، وطالبي اللجوء الأفارقة. وحثت الاتحاد الأوروبي على وقف دعمه لهذا البلد في محاربة الهجرة غير النظامية، وقد أجج تصريح الرئيس قيس سعيّد القائل فيه إن المهاجرين يغيرون التركيبة التيموغرافية لتونس، استنكار المنظمات الدولية.

لكن أخرين يرون أن تصريحات سعيّد، تتماهى مع تصاعد موجة الرفض الشعبي لتواجد الأفارقة غير النظامين في تونس، مع تنامي أعدادهم وزيادة حالات العنف من البعض. ويعود ارتفاع عدد المهاجرين الأفارقة في تونس إلى اعتبار البلد نقطة عبور مميزة نحو أوروبا، وهذا يتعارض مع سياسة بلدانها، وعلى وجه الخصوص إيطاليا العاجزة عن احتواء الوافدين غير النظامين، الأمر الذي دفع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى الدخول في مفاوضات مع تونس، تتضمن مقترحاً بمنح تونس 900 مليون يورو سنوياً مقابل اتفاق فسره ناشطون بتحويل تونس من أرض عبور إلى أرض استقبال للمهاجرين المرحلين من البلدان الأوروبية، بمعنى أن تصبح تونس سجناً كبيراً للمهاجرين.

وبحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ توافد عدد كبير من المسؤولين الأوروبيين، ليس إلّا محاولة للضغط على الدولة، مستغلين أزمتها الاقتصادية والسياسية، وهشاشة الوضع الاجتماعي الذي يترجمه ارتفاع أعداد المهاجرين غير النظامين وهو ما بينه الرسم البياني أعلاه.

هشاشة الوضع في تونس

لا يمكن لأحد إنكار هشاشة الوضع في تونس، وجميع الأرقام تأكد قابليته للانفجار، وهو ما يعني الفقر للجميع، بحسب ما ذهب إليه الخبير في الحوكمة والنائب السابق حاتم المليكي، في نقده للسياسة التي تتبعها السلطة اليوم، فضلاً عن تراجع تونس في مؤشر حرية الصحافة أساساً في تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود، حيث تقبع في المرتبة 121 بعد أن كانت في المرتبة 94 سنة 2022، وبعد أن كان ترتيبها 73 عالمياً والأولى عربياً سنة 2021، وهو ما يعد أحد نواقيس الخطر التي تهدد حرية التعبير التي لطالما اعتبرها التونسيون أهم مكسب راهنوا عليه من الثورة الى اليوم.

عموماً، يعتقد الكثير من النشطاء، أن تفاقم الأزمة في ظل حكم قيس سعيّد، سيكون سبباً جازماً في عدم فوزه في الانتخابات الرئاسة المزمع إجرائها في العام الجاري. وعلى النقيض من هذا، تتعالى أصوات أخرى مؤكدة أن الفترة الرئاسية القادمة ستكون من نصيب سعيّد، لأن الشعب لمس صدقه وأمانته، وأن التغيير الجذري يتم عبر مراحل، فهو لا يملك عصا سحرية، لذلك فمن الطبيعي وجود مثل هذه الأزمات.