استقطابات محلية ودولية في ليبيا المصابة بإعصار الطبيعة

جاءت زيارة قائد “الجيش الوطني الليبي” المشير خليفة حفتر إلى روسيا، نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، في سياق تراتبية أحداث ولقاءات تكشف عن مقاصد وأهداف السفر نحو موسكو في هذا التوقيت، وخصوصاً أن الزيارة جرت في أعقاب مباحثات أجراها قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (“أفريكوم”) مايكل لانجلي في شرق ليبيا، التقى خلالها حفتر الذي بدوره استقبل خلال الشهر ذاته وفداَ عسكرياً روسياً بقيادة نائب وزير الدفاع، فضلاً عن كون الزيارة جاءت وسط حالة من الانتقادات والاستقطاب السياسي بين الفاعلين المحليين على خلفية إعصار دانيال الذي ضرب مدينة درنة وحصد آلاف الضحايا من سكانها.

روسيا وشرق ليبيا

ثمة سياق لافت تقع في إطاره زيارة الرجل الأول في شرق ليبيا، ويتمثل ذلك في حالة ومستقبل قوات “فاغنر” الروسية في ليبيا، ولا سيما بعد مصرع قائد المجموعة يفغيني بريغوجين، نهاية شهر آب/ اغسطس الماضي، في حادث تحطم طائرة، الأمر الذي دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمناقشة هذا الأمر مع المشير خليفة حفتر، وخصوصاً أن تواجد تلك المجموعة في شرق ليبيا يمثل عبئاً استراتيجياً على حفتر في ظل ضغوط الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية من خطورة حضور تلك القوات في ظل سيولة الأوضاع الميدانية داخل الجارة السودان.

يدفع ما سبق إلى التأويل المنطقي لمناقشة هذه القضية على أجندة أولويات المباحثات بين الطرفين وكيفية التعامل مع هذا الملف في ظل التواجد الميداني للقوات التركية في الغرب الليبي والعاصمة طرابلس تحديداً، وموقف واشنطن من ذلك، ومنسوب الغضب والأعتراض الذي أبداه ممثل القوات الأميركية، خلال لقاء المشير في بنغازي، وقبل أن ينتقل إلى العاصمة والأجتماع مع رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة.

وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” أشارت إلى أن كبار المسؤولين الروس، بمن فيهم نائب وزير الدفاع يونس بك يفكوروف، التقوا مع قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر في الأسابيع الأخيرة لمناقشة حقوق الرسو على المدى الطويل في شرق ليبيا. ولفتت الصحيفة إلى أن الروس طالبوا بالوصول إلى موانئ في بنغازي أو طبرق على بعد أقل من 400 ميل من اليونان وإيطاليا، الأمر الذي يؤكد أن الزيارة الأخيرة لمايكل لانجلي وضعت هذا الأمر ضمن جدول مباحثاتها في شرق ليبيا.

ارتباك أميركي

من الأهمية بمكان تحديد أن تصور القوى الدولية، سواء روسيا أو الولايات المتحدة، إزاء الفاعلين المحليين في الشرق والغرب، يأخذ الاتجاه التكتيكي والوظيفي الذي يحمل أوجه تناقض عديده حيال القضايا العالقة في مسار التسوية  للأزمة السياسية في ليبيا: مرة من خلال توحيد السلطة التنفيذية أو خيار دمج الحكومتين مع الاحتفاظ بورقة عبد الحميد الدبيبة، ومرة أخرى عبر الاستحقاق الانتخابي ودعم بعض الأسماء على حساب أخرى، وخصوصاً أن المشير خليفة حفتر منح أبنائه سلطات ومناصب داخل الشرق الليبي بشكل واسع.

كذلك الأمر يُمكن وصف موقف القوى الدولية بأنها متناقضة بشكل كبير إزاء حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، حيث يبصر أي مدقق لموقف واشنطن أنه يتجاوز التناقض ويقترب من الارتباك. فواشنطن أعربت كثيراً عن دعمها  لحكومة طرابلس بينما في وقت لاحق دعت إلى ضرورة تشكيل حكومة جديدة موحدة تشرف على/ وتتولى تنفيذ الاستحقاق الانتخابي. بيد أن ذلك يواجه مقاومة من الدبيبة عبر ارتباطاته الإقليمية وتوظيف تناقضات المواقف الإقليمية والدولية لصالح حضوره وهيمنته على منصب رئيس الحكومة، الأمر الذي يضع خيار “دمج الحكومتين” كورقة وظيفية تتحرك من خلالها واشنطن عبر المبعوث الأممي لدى ليبيا عبد الله باتيلي ومجموعة الاتصال الدولية، لمطالبة الفاعلين الليبيين بالتوافق بغية الوصول إلى تفاهمات تفضي إلى حل لأزمة توحيد السلطة التنفيذية والمضي قدماً لخطوة الاستحقاق الانتخابي.

تحركات واشنطن ورسائل موسكو

في الإطار ذاته، تدرك موسكو وواشنطن أن ثمة توازنات ينبغي التعامل معها بما تملكه من حضور ميداني على الأرض لا يمكن تجاوزه بأي حال، الأمر الذي يتسق مع نموذج المشير خليفة حفتر في الشرق. ولذلك يأتي تعامل القوى الدولية بحسب الاعتبارات الواقعية  لبيئة الأحداث في ليييا وتوازنات القوى في الشرق التي تميل نحو المشير على حساب رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح، الأمر الذي يضعه كنقطة مركزية في معادلات التسوية وآفاق المستقبل السياسي المنظور.

وإذا كان من الصعوبة قبول منطق التأييد الأميركي لحضور وهيمنة حفتر وأبنائه في شرق ليبيا، فمن المستحيل تصور موافقة واشنطن على سيولة الأوضاع في الشرق وانفراط سلطة المشير، وخصوصاً أن الجغرافيا السياسية التي تتمتع بها ليبيا مؤثرة لدرجة كبيرة في المصالح الأميركية والأوربية، بما يدفع صانع السياسة الأميركية لقبول تلك التناقضات مع المشير بدلاً من تركه لصالح السياسة الروسية التي تدخل في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة والقوى الأوربية على خلفية الحرب في أوكرانيا.

وتضاعف طبيعة الوضع الداخلي في ليبيا من صورة الأزمة، إذ لا يمكن بأي حال عزل مكونات الواقع المحلي وهيئته القبلية وخصائصه عن مجمل التحولات التي يشهدها العالم؛ سواء إقليمياً أو دولياً، فضلاً عن التطورات التي تتصل بدول الساحل والصحراء وما سينتج عنها من متغيرات ومراحل انتقالية ومساحات من الفراغ والخوف من المجهول.

إن فهم وإدراك ذلك قد يتأتى مع قراءة ما أفادت به وكالة “تاس” الروسية نقلاً عن قناة “الحدث” السعودية، من أن الولايات المتحدة حذرت القائد العام للقوات المسلحة الليبية خليفة حفتر وقادة آخرين في البلاد من التقارب مع روسيا، إذ قال متحدث باسم البيت الأبيض: “نحن (الإدارة الأميركية) نحذر حفتر وغيره من القادة الليبيين من الاعتماد على (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين.”

وبحسب ممثل الإدارة الأمريكية: “يجب على القادة الليبيين أن يتحدوا خلال الأزمة”، مضيفا أن واشنطن “على اتصال بالحكومة (الليبية) لتقديم الدعم.”

وجاءت تصريحات ممثل البيت الأبيض، بعد زيارة حفتر لموسكو، حيث التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.

من جانبها علقت السفارة الروسية لدى ليبيا بسخرية على تقارير أميركية بشأن تحذير حفتر وغيره من القادة الليبيين من التقارب مع روسيا.

وقالت السفارة في تعليق عبر قناتها بتطبيق “تليغرام”: “واشنطن تواصل إمتاعنا؛ ضحكنا طوال المساء”، بحسب ما أوردته قناة “آر تي عربية”.

على أية حال، لا ريب في أن حالة الصراع العسكري بين روسيا واوكرانيا ووضعية الاستقطاب الميداني الناتج عن العمليات العسكرية عبر مسرح الأحداث في كييف يفرض العديد من الآثار والنتائج عبر كافة النقاط المشتركة، ولا سيما الجغرافيا الليبية ووضعية الفوضى وفشل الدولة، مما يدفع الولايات المتحدة نحو التحرك بكل قوة لفرض مركزية الدور الأميركي، والسعي لتهيئة أجواء الاستقرار ودفع مجلس النواب والأعلى للدولة للتوافق على مسار القوانين الانتخابية، وكذلك الوصول إلى الصيغة المثلى للتعامل مع تفتت السلطة التنفيذية، وخصوصاً مع إصرار الدبيبة على التمسك بمنصبه كرئيس للحكومة. وعلى الجانب الآخر، تتحرك موسكو نحو مواصلة الحضور الميداني عبر كياناتها الرسمية بديلاً عن مجموعة فاغنر، فضلاً عن التمركز في قواعد عسكرية في الشرق الليبي.