إعادة إعمار سورية: عقبات أمنية وسياسية واقتصادية

لا تبدو عملية إعادة الإعمار بعد الصراعات العسكرية والحروب، قريبة، بل ربما سوف تمضي أعوام طويلة قبل أن نشهد بداية إزالة الدمار ومن ثم وضع أساسات البناء. فالحرب التي انخفضت وتيرتها تبدلت من معارك حامية الوطيس بين النظام وحلفائه ومعارضيه وحلفائهم، إلى معارك بين مليشيات الحلف الواحد، فضلاً عن أن حجم إعادة الإعمار ووتيرته ونطاقه تحتاج إلى عوامل اقتصادية وسياسية، داخلية وخارجية، تلجمها التطورات الدولية وخصوصاً الحرب في أوكرانيا، وتداعياتها على الاقتصاد العالمي وما انتجته من أزمة غذاء، والتي تتورط كل الدول الغربية فيها، مباشرة أو بشكل غير مباشر، وبالطبع روسيا وبعض حلفائها، الأمر الذي يحيل إلى مستقبل تبدو فيه الغلبة إلى إعادة الإعمار في أوكرانيا وليس في سورية، ولا سيّما أن هذه العوامل هي التي تحدّد وجهة المساعدات أو القروض الممنوحة أو الاستثمارات، تماشياً مع الأهداف السياسية للقوى الإقليمية والدولية، والأولويات التي تضعها.

دمار واسع وتكلفة باهظة

بلغ الدمار الناتج عن الحرب حجماً هائلاً، وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن صراع 10 سنوات في سورية أدى إلى دمار 40% من البنية التحتية للبلاد، و70% من شبكة الكهرباء وإمدادات الوقود والمياه، كما تضررت واحدة من كل 3 مدارس، وأصبح نصف المستشفيات والعيادات والمستوصفات خارج العمل، فضلاً عن تدمير 7% من المنازل، وتضرر 20% منها بشكل جزئي.

ويشير تقرير صدر في سنة 2020 عن المركز السوري لأبحاث السياسات المستقل، إلى أن سوريا فقدت ثلثي ناتجها المحلي الإجمالي بعد أن انخفض من 60 مليار دولار عام 2010 إلى 20 مليار دولار عام 2020.
وقدر تقرير أصدرته وزارة النفط والثروة المعدنية في حكومة دمشق في 29 آب/ أغسطس، حجم خسائر القطاع النفطي في تقرير صادر عنها بتاريخ 29 آب / أغسطس، بـ 107,1 مليارات دولار منذ سنة 2011 وحتى 2022.

وأشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو” التابعة للأمم المتحدة في 2019، إلى أن أكثر من نصف السكان المتبقين في سورية غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية اليومية، بعد انخفاض إنتاج الغذاء إلى مستوى قياسي. وأضاف أن الإنتاج الزراعة في سورية ما قيمته نحو 16 مليار دولار، فضلاً عن خسائر الجسيمة في بنية القطاع.

وقدّر مبعوث الأمم المتحدة السابق لسورية ستيفان دي ميستورا في سنة 2018 تكلفة إعادة الإعمار  بـ 250 مليار دولار، أي أكثر من 4 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لسورية قبل اندلاع الحرب، لكن تصريحات سابقة لرئيس النظام السوري بشار الأسد، قدرت أن ما تحتاجه سورية لإعادة إعمار البنى التحتية بـ 400 مليار دولار.

وبحسب تقديرات المفوضية الأوروبية، فإن عملية إعادة إعمار المدن المدمرة في سورية تحتاج إلى نحو 900 مليار دولار ومدة تتراوح بين 10 و15 عاماً.

ويعتبر هذا المبلغ الفاتورة الأكبر في التاريخ الحديث لإعادة إعمار دولة مدمرة، وهو إذ يثير اهتمام الدول التي تتطلع لدور أكبر في عملية إعادة الإعمار عقب إيجاد حل سياسي للصراع الدائر في سورية، لكن في الوقت الحاضر لا يبدو أن الأمر متاح.

العقوبات تحول دون استقطاب مستثمرين

لكن عملية إعادة الإعمار باتت محكومة بزوال عقوبات أميركية وأوروبية مفروضة على النظام السوري، فمع إقرار مجلس الشيوخ الأميركي “قانون قيصر” في منتصف كانون الأول / ديسمبر 2019، فرضت عقوبات على الأفراد والشركات الذين يموّلون أو يقدمون المساعدة للنظام السوري، واستهدف القانون عدداً من الصناعات السورية، بما في ذلك تلك المُتعلِّقة بالبنية التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة.
وقد منع هذا القانون الكثير من الدول، ومن بينها الدول الحليفة للنظام السوري مثل روسيا والصين وإيران، من التفكير جدياً في الانغماس في إعادة إعمار سورية في الوقت الراهن، على الرغم من محاولاتهم الالتفاف على قوانين العقوبات الأميركية والأوروبية على حد سواء.

وفي مسعى لتجاوز العقبات التي تحول دون جذب مستثمرين للانخراط في إعادة الإعمار، عمل النظام السوري خلال الأعوام الثلاثة الماضية على تنظيم معارض متخصصة في إعادة الإعمار بمشاركة ممثلين عن شركات استثمار متخصصة في إعادة الإعمار من الدول الحليفة للنظام وبعض الدول العربية والأوروبية من بينها: لبنان؛ الأردن؛ سلطنة عُمان؛ روسيا؛ جمهورية الدونيسك المُعترف بها من روسيا والمرفوضة دولية؛ بيلاروسيا؛ إيران؛ الصين؛ فنزويلا؛ كوبا؛ جنوب أفريقيا؛ صربيا؛ إندونيسيا؛ باكستان؛ تنزانيا؛ الهند؛ إيطاليا؛ مقدونيا؛ الدنمارك؛ اليونان؛ إسبانيا؛ ألمانيا؛ رومانيا؛ بلجيكا.

وعلى الرغم من تطبيع دولة الإمارات العربية المتحدة علاقاتها السياسية مع نظام دمشق، والتي تُعتبر من أهم اللاعبين العرب المرشحين لدور في إعادة الإعمار والاستثمار في سورية، إلا أننا لم نشهد أي مشاركة للشركات الإماراتية في المعارض والفعاليات المتخصصة في إعادة الإعمار، والتي ينظمها النظام السوري.

ويشير خبراء اقتصاديون إلى أنه وعلى الرغم من التقارب السياسي الكبير بين الإمارات والنظام السوري؛ إلا أن الإمارات تخشى كثيراً من التصادم المباشر مع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على النظام السوري والمتعاونين معه اقتصادياً.

وتعتبر تركيا من أهم المرشحين الرئيسين للعب دور كبير في ملف إعادة الإعمار، ولكن الدور التركي مرهون بالاعتبارات الجيوسياسية.

وعلى الرغم من النفوذ التركي الكبير في سورية، وخصوصاً التواجد العسكري التركي في شمال غرب سورية والحديث عن تقارب سياسي بين حكومتي أنقرة ودمشق، إلا أن الحديث عن المشاركة في إعادة الإعمار يحتاج بالنسبة لتركيا إلى عدة عوامل رئيسية أهمها، التوصل إلى حل سياسي شامل في سورية يضمن المصالح التركية وتطبيق القرارات الدولية بما في ذلك قرار مجلس الأمن 2254 والتي تعتبر تركيا من الداعمين لتطبيق القرار الأممي.

ويرى خبراء أن التقارب السياسي بين روسيا الحليف الرئيسي للنظام السوري وتركيا الحليف الرئيسي للمعارضة السورية يهدف إلى حفظ مصالحهم السياسية والعسكرية للمشتركة على الأرض السورية بعيداً عن المصالح الاقتصادية في الوقت الراهن.

ضعف الموارد

ويعتبر ضعف الموارد المحلية في سورية من أهم العوائق الاقتصادية التي تواجهها البلاد فيما لو بدأت فعلياً بالتفكير في إعادة الإعمار، بعيداً عن الاستثمار الخارجي.

فالدمار واسع في القطاعات الزراعية والصناعية وفي البنى التحتية، فضلاً عن ضعف واردات النفط الضعيفة والتي لا تغطي حالياً أكثر من 40% من حاجة سورية الفعلية بحسب تقارير اقتصادية.

وتعتبر هجرة الأيدي العاملة في سورية من أهم العوائق التي تواجهها ملف إعادة الإعمار.
وبحسب تقارير مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة شهدت سورية موجات هجرة واسعة جراء العمليات العسكرية التي تشهدها البلاد بين أطراف النزاع خلال السنوات السابقة. وتشير التقارير إلى أن عدد المهاجرين من سورية حتى سنة 2022، فاق 12 مليون سوري يتوزعون على عدة دول مجاورة، وأوروبية، وعربية.

تنافس الإعمار بعد صراع الحرب

قد تشكّل عملية إعادة الإعمار في سورية، عندما يحين أجلها، فصلاً جديداً من فصول التنافس بين مختلف الأطراف الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية، فيما ستتحدّد معالم مشهد ما بعد الحرب في كل دولة بناء على التحالفات والتنافس فيما بينها.

وتقدم العلاقات المتداخلة منظوراً متعدّد الأبعاد يمكن من خلاله فهم العلاقة القائمة بين إعادة الإعمار بعد الحرب وموازين القوى الإقليمية والدولية.

ومع دخول الصراع القائم في سورية عامه الـ 11، يبقى ملف إعادة الإعمار في مواجهة مع الكثير من التحديات الشائكة ومن أهمها غياب أي حلول سياسية (إقليمية أو دولية) لإنهاء الصراع الدائر في البلاد عبر السنوات السابقة.

وتشترط الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين تطبيق القرار الأممي 2254 الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية واجراء انتخابات حرة ديمقراطية شرطاً أساسياً قبل الخوض في إعادة إعمار سورية.

ويعد الاستقرار السياسي من أهم ركائز إعادة الإعمار، والذي يشجع الدول والشركات الكبرى المتخصصة على الاستثمار والمشاركة في إعادة الإعمار، وهذا الأمر تفقده سورية، على الرغم من الهدوء الحالي النسبي بين الأطراف المتصارعة فوق الأرض السورية، والذي تشهده معظم الجغرافية السورية، ويبقى غياب الحل السياسي من أهم العقبات الشائكة التي تحول دون التفكير جدياً في الاستثمار بإعادة الإعمار حاضراً.