أي مستقبل لعلاقة اتحاد الشغل بالرئاسة التونسية؟
تُعد العلاقة بين الاتحاد التونسي للشغل ومؤسسة الرئاسة التونسية، عبر السنوات التي تلت أحداث كانون الأول/ ديسمبر 2010 – كانون الثاني/ يناير 2011، ملتبسة وشائكة، نظراً لتعاظم الأدوار التي مارسها الاتحاد، واختلاط السياسي مع الجانب الاقتصادي والاجتماعي، وسط بيئة متوترة اتسمت بها تونس خلال السنوات الفائتة.
لا ريب في أن نظرة الاتحاد التونسي للشغل، في الأعوام التي سبقت قرارت الرئيس قيس سعيّد، في 25 تمّوز/ يوليو ٢٠٢١، كانت نظرة سلبية، وارتكزت على رؤية المنظمة بأن عملية الانتقال الديمقراطي فاشلة، وسعي الأحزاب السياسية للتهافت على السلطة، وحصد المكاسب من دون اعتبار لقيّم الدولة ومفهومها، وخصوصاً في كافة تحركات حركة النهضة وسعيها نحو التمكين، وكذا انتخابات البرلمان في سنة ٢٠١٩، والتي أنتجت العديد من التكوينات السياسية التي ميّعت مصالح الدولة، وبدّدت حقوق المواطنين، لمصلحة حقوق فئوية وصراعات جانبية، فضلاً عن رؤية الاتحاد السلبية لدستور ٢٠١٤، والذي عدّه من أبرز إشكاليات تلك الفترة.
علاقات مرتبكة
في المقابل، لا يزال الاتحاد العام التونسي للشغل يتمسك بمبدأ الحوار، وذلك من خلال آلية العمل، عبر دعوته غير مرة لتنظيم حوار وطني مع مؤسسة الرئاسة، بيد أن مؤشرات عدة تستقر نحو رفض السلطة ممثلة في الرئيس قيس سعيّد لذلك، وخصوصاً بعد انتخاب وانتظام جلسات مجلس نواب الشعب. إذ يرى الرئيس أنّ البرلمان هو الحيز الذي ينبغي أن تمر وتجرى من خلاله آليات وجلسات الحوار.
ويرى متابعون للشأن التونسي أنّ المبادرة التي يعمل عليها الاتحاد، بالتعاون مع ثلاث منظمات وطنية هي: الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين، ومنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، هدفها الرئيس الشأن السياسي، من دون الانتقاص من رؤية تتصل بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصاً أن القضايا الثلاث تتشابك مع بعضها البعض وتتفاعل أيضاً، فضلا عن كونها أنتجت مشهداً كثيفاً ينبغي العمل على تفكيكه والخروج من نفقه عبر القوى الفاعلة تاريخياً، وخصوصاً الاتحاد التونسي للشغل باعتباره أكبر قوة نقابية في تونس، وصاحب الدور التاريخي عبر العقود الطويلة التي مضت.
لكن الرئيس سعيّد يصر على أنّه لا عودة إلى الوراء، الأمر الذي يطرح عدة سيناريوهات في شكل ومستقبل العلاقة فيما بين الطرفين، في الوقت الذي يواجه فيه الاتحاد بعض الانتقادات على مستوى الوضع التنظيمي، ارتباطاً بمسار انتخاب الأمين العام نور الدين الطبوبي، من دون أن يعني ذلك، بأي حال من الأحوال، التغاضي عن القيمة والمكانة التي يحوزها الاتحاد في ذاكرة التونسيين، وقدرته على توجيه القوى العاملة نحو أي قرار.
لقد مارس الاتحاد التونسي للشغل التصعيد السياسي ضد مؤسسة الرئاسة والحكومة، كما وجه الرئيس قيس سعيّد آرائه الحادة والمباشرة ضد الاتحاد بغير هوادة، وعرفت الساحة بينهما الشد والجذب خلال الأشهر الماضية، لا سيما خلال الأيام الأخيرة من شباط/ فبراير، ومطلع آذار/ مارس الماضيين، وصلت لحد التلويح والتهديد بتحريك الشارع، والدعوة إلى الإضراب الشامل، بيد أن الأيام الأخيرة حملت ملامح مقاربة جديدة من قيادات الاتحاد، اعتمدت الهدوء في تصريحات قيادات الاتحاد، بغية شق قناة جديدة للحوار مع مؤسسة الرئاسة، وذلك من خلال المبادرة التي تطرح حالياً، عبر اسم “مبادرة تونس المستقبل”، بدلاً من اسمها السابق “مبادرة الإنقاذ الوطني”.
يستند الاتحاد التونسي للشغل في التشبث بمبدأ الحوار عبر المبادرة التي يتبناها مع منظمات وطنية، نحو ما حققه سابقاً في سنة ٢٠١٣، حين استطاع تجنيب البلاد الانزلاق نحو الفوضى، وتحقيق التوافق بين القوى الفاعلة، وموافقة راشد الغنوشي حينذاك على حل الحكومة لمصلحة إجراء انتخابات جديدة، على خلفية اغتيال القيادي التونسي شكري بلعيد، غير أن الواقع ومدركاته يذهبان نحو الاختلاف العميق بين الحالتين، وأنه لا سبيل لتكرار ما جرى منذ عقد خلال هذه الأيام، سواء على مستوى البلاد داخلياً، أو على المستوى الإقليمي والدولي أيضاً.
في إطار ذلك، يمكن الحديث عن عدة سيناريوهات تحكم العلاقة وأطر التصعيد، وكذا مقاربة الحوار وتحرك كل طرف نحو الآخر في سياق المواجهة بين الاتحاد ومؤسسة الرئاسة.
سيناريوهات ضبط المشهد
ثمّة ثلاثة سيناريوهات تضبط المشهد التونسي على المستوى الداخلي، على الرغم من تفاعل الوضع الإقليمي والدولي، وتأثيره المباشر على فضاء الوضع السياسي والاقتصادي:
السيناريو الأول: ارتفاع حدة المواجهة بين الاتحاد والرئيس التونسي، على خلفية تفاقم الوضع الاقتصادي والمالي، وفشل جميع جهود الرئيس قيس سعيّد، السياسية في ضبط مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، في ظل تحركاته على المستوى الأوروبي، وخصوصاً مع إيطاليا عبر ورقة الهجرة غير الشرعية، وغلق المنافذ الحدودية، الأمر الذي سيرفع من وتيرة التوتر الشعبي في البلاد، ويسمح للاتحاد بالضغط الشديد لطرح مطالبه وبسط إرادته.
السيناريو الثاني: نجاح الرئيس قيس سعيّد في جهوده السياسية مع إيطاليا، ونجاح مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي سيسمح له بتخفيف الضغط الشعبي عليه، عبر الانفراجة الاقتصادية والمالية، فتفقد مبادرة الإنقاذ منطقيتها من الأساس، وتعتبر ولدت ميتة، الأمر الذي يصيغ ملامح جديدة لشكل وهيئة الاتحاد، واكتفائه بمهام عمالية ونقابية، وابتعادها عن المسار السياسي الذي غلف تاريخها الطويل منذ لحظة التأسيس.
السيناريو الثالث: يعمل الرئيس قيس سعيّد على تجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي يضغط عليه بشدة، نظراً لكونه سيمر خلال العام القادم بمشهد الانتخابات الرئاسية، وبالتالي الاندفاع لإيجاد مسار آمن للحوار مع الاتحاد خلال الأفق المنظور، وخصوصاً أنه أزاح عبء حركة النهضة عن كاهله، ودفع بعدد من قياداتها نحو نفق الإجراءات القضائية والتوقيف على خلفية تلك القضايا.
السيناريو المرجح: من الصعوبة بمكان إغفال ذلك الدور المتعاظم الذي استطاع الاتحاد أن يراكمنه في تاريخ تونس وواقعها المعاصر، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي، وعلى خلفية ذلك من المرجح أن تظل حالة الجمود بين الطرفين، ومن وقت لآخر تجمع عدة قضايا فيما بينهما وفق ضوابط عديدة، بحسب قدرة الرئيس على تجاوز أزمة الوضع الاقتصادي والمالي، واستقرار نسق نظامه السياسي وسط عواصف التحول الإقليمي والدولي؛ ومن ناحية أخرى مدى تماسك الاتحاد على مستوى نسقه الداخلي، وخصوصاً أن الأزمة التي عصفت بالطرفين خلال العامين الأخيرين أضعفت وضعية الاتحاد، بالتزامن مع أزمة انتخابات الأمين العام وهيئة المكتب، ولذلك ينظر الاتحاد التونسي للشغل نحو مبادرته الأخيرة باعتبارها ملاذاً آمناً لاستعادة بريقه ودوره المعروف والمعتاد في الشأن العام.